هل يترك الملالي السياسة لأصحابها.. فايران بضاعتُها الفكر والمفكرين.. والأزمة ليست في طبيعة الاتفاق النووي بل في رغبة أمريكا باستخدامه لخدمة كل الملفات وما هي خيارات الأطراف وموقع الصفقة منها

من شأن التلويح الأوروبي بالعودة الى آلية فض النزاع أن يعود بالأزمة مع ايران إلى المربع الأول والساخن. والتهديد به يقوم على اتهام ايران بنكث تعهدها في تنفيذ الاتفاق النووي الذي تم بجهود امريكية ومن صنع أمريكي. ولم يكن هذا الإتفاق محل ارتياح لإسرائيل. ولا نستطيع عزل هذا الإنقلاب الأوروبي وبهذا التسارع عن شعورهم في تغيير موازين القوة على الأرض. وهذا يعيدنا للتأكيد بأن أوروبا حين وافقت على الاتفاق. إنما كانت موافقتها انسياقا وراء موقف ادارة أوباما وليس قناعة منها. فأوروبا ذيل أمريكي ولا تتخذ قرارا سياسياً دولياً بمعزل ً عن الموقف الأمريكي.
لم تكن ادارة أوباما حين أبرمت الاتفاقية على علاقة ود مع نتنياهو. وكان اوباما حريصا على استثمار علاقة الجفاء هذه للمضي في عقدها واستطاع ذلك. وكان بنفس الوقت ناقدا وفاضحا لسياسة الأنظمة العربية ويركز في دفاعه عن الاتفاقية وتسويقه لها على أنها في صالح اسرائيل والاستقرار الاقليمي وأن معارضيها هي الانظمة العربية. ومن يقرأ تصريحاته بعد توقيع الاتفاقية يدرك بأنها تنطوي على المصلحة الإيرانية ويدرك تفهمه للطموحات والحقوق الإيرانية وخاصة عندما قال إثر توقيعها بأن لا قوة بالنهاية تستطيع منع ايران من أن تكون نووية. فالحكام العرب كانوا وما زالوا يعتبرون حياتهم ووجودهم أمر مرتبط بالخيانة والعمالة. ولذلك يرون في ترامب ضالتهم ويعتبرونه المسلم الحقيقي والمهدي المنتظر.
العودة الى آلية فض النزاع وعرّابها صبي فرنسا الذي تلاسن مع شرطي احتلال يمنعه من دخول كنيسته والصلاة فيها كمسيحي ( إنه الإذلال الصهيوني للأوروبيين). أقول العودة اليها لا يعني أقل من التخلي عن الاتفاق وكأنه لم يكن والعودة لإعادة العقوبات الشاملة على ايران عن طريق مجلس الأمن كما كانت سابقا. وسيكون فشل العقوبات أو الادعاء بفشلها فيما بعد مدعاة لطريق استخدام القوة العسكرية بنظام مجلس الأمن. ولن تكون روسيا أو الصين في موقع يمكنها من إنقاذ ايران. ناهيك عن أن نظام الفزعة في الدول له حسابات تقوم على ميزان الربح والخسارة. والأطلسي جاهز ليتفعل بمعزل عن مجلس الأمن. إلا أن هذا الاستخدام العسكري لن يكون إلا خيار الصفر. والمحصلة الراجحه ستكون ابتزازا سياسيا واقتصاديا لايران والارضية موجودة.
نعلم أنه من المفترض لو حَسُنت النوايا وكانت أوروبا تحترم نفسها والتزاماتها وتواقيعها أو كانت تقدم المبادئ والقيم والقانون على مصالحها وخنوعها للصهيوني لوقفت الى جانب تعهداتها والتزاماتها وواجهت أحمق أمريكا. ولو كان هناك موقف إسلامي موحد إزاء استهداف ايران ربما يُحدث خفضاً ملموسا في تصاعد الحشد والتهديدات والضغوطات عليها. ولو كانت الأنظمة العربية المجاورة لايران حرة وصديقة لها لا عميلة. لما كانت مدججة بالقواعد الأمريكية الصهيونية. ولصنعت فرقا لايران. بل لو كان التأثير الايراني في العراق إيجابيا وأسهم في صنع دولة عربية سليمة لكان عملا في صالحها. إنها الدعارة السياسية التي لا يجيدها المُلَّا.
نحن الآن أمام ثلاثة مواقف لأطراف رئيسية في الأزمة لم تتبلور بعد. الأوروبي والأمريكي والإيراني. لكنها جميعها تريد الحصول على مبتغاها دون حرب مردودها سلبي عليها وعلى الاستقرار العالمي وموارد المنطقة. فبالنسية للدول الأوروبية مواقفها ونظراتها الحقيقية للأزمة متفاوتة. فرنسا وبريطانيا يمتلآن حقدا واستعماراً ويقومان بدور جر بقية الدول الأوروبية للكلمة الأمريكية الصهيونية. بينما هاجس الأغلبية الأوروبية كقارة لا هم لها يفوق فزعهم من انتعاش وعودة الارهاب الداعشي وغيره في حالة تسخين الصراع في العراق والمنطقة. فهي في هذا تعتمد على التواجد الأمريكي في البؤر الساخنة. ولكنها في النهاية ستنضم لأمريكا في خيارها والذي تُسَوِق له فرنسا وبريطانيا.
أما أمريكا. فإن الملف الذي على طاولتها الآن هو صفقة القرن. فستبقى خلال الأشهر القادمة مستمرة في التصعيد الواهم مع ايران لإلهائها بنفسها وبالدفاع عن نفسها من أجل سلاسة طرح صفقة التصفية بالطريقة وبالكَم الذي ستتفق حوله مع اسرائيل. وقوامها المرحلي سينطوي على أولوية مد قومية الدولة اليهودية على كل فلسطين ووسائل التخلص من البعدين السكاني والسياسي المترتبين على ضم الضفة هذه المرة. وبوضع الخطة في هذا على مسارين مترافقين الأول تثبيتها رسميا على جدول ألاعمال الدولي وفي الأمم المتحدة , والثاني فرض واقع الصفقة وطبيعتها ومستلزماتها على الأرض الفلسطينية والأردنية. وأمريكا في هذا لا تنتظر موافقة السلطة الفلسطينية أو النظام الهاشمي اللذين لن يكون لهما في المحصلة حصة. بل تنتظر رفضهما وتعاونهما. فلا أساس ولا سند مادي ولا سياسي لرفضهما السابق واللاحق وهم يعرفون حجمهم الاستسلامي ضمن المكان الذي أصروا ويصرون على وضع انفسهم به.
أما بالنسبة لسياسة أمريكا من الأزمة مع ايران. فقد صعّدت وغامرت ونجحت خلال الشهرين الماضيين واستطاعت الإمساك بمؤشر بوصلتها لحد كبير. ولا أعتقد أن معركتها مع ايران إلا سياسية وطويلة. وستعمل على إعادة تحويل الملف النووي الى ملف اسرائيلي صهيوني. ولن يقبل الانجلو سكسوني الأمريكي بأقل من جعل هذا الملف قميص عثمان ولن تحل عقدته ولن تتوقف الضغوطات وتصعيدها إلا في سياق تفاهم امريكي ايراني عام على كل الملفات كصفقة والتي على رأسها مصلحة اسرائيل ومشروعها في المنطقة وحزب الله وسوريا. فهي تعتبر أن عزل ازمة الملف النووي عن ذلك كان خطأ استراتيجياً ارتكبه أوباما. وأن أوباما أعطى ولم يأخذ. فأمريكا تقفز على كل الحواجز والمحذورات من أجل اسرائيل حتى لو اضطرها الأمر لتكرار نفس السيناريو في عراق صدام. ولكن دون شريك لها في ايران ودون تركها ضعيفة. فلن تتخلى عن ايران قوية وصديقة ولن تتخل عن دس الفرقة بين العرب وايران ما لم ينهض العرب ـ.
أما الطرف الإيراني فهو الأقصر نفسا من بين الأطراف. ومن يقع تحت الضغط المتواصل والقادم المتوقع. ولا أعتقد أنها قادرة على تبني خيار استراتيجي قائم على المواجهة باتجاه إنقاذ مشروعها المتعارض مع المشروع الصهيوني وأمريكا بالمنطقة. ولكنها قادرة بالسياسة على حماية نفسها ومصالحها ومكاسب أكثر. وخياراتها التي تهدد بها مع التحول الأوروبي باتت صعبة. فالأعمال الثأرية خارج حدودها تخدم غيرها وستفكر كثيرا قبل تنفيذها. لكن التصريح بها ليس سلوكاً مفهوما من دولة. واستخدام مضيق هرمز عمل سيقيم العالم عليها ولن تتهاون به امريكا ولا اوروبا. ولن يكون أمامها ورقة أكبر وأعمق تأثيرا على أمريكا من حزب الله. إلا أن استخدامها يحتاج إلى خبراء مختصين. أما تفعيلها على خلفية نزاع لها مع امريكا عمل من أعمال الحرب الشاملة. ولن تفعلها إلا من باب علي وعلى أعدائي. ولكنها لن تصل لهذه المرحلة. وفي العراق بدأ التحول ضدها أكثر عمقا باحتلال التيار الصدري للشارع.. ولا بد من وقف احتكار الملالي للعمل السياسي ومن الانفتاح على سياسيي ايران وعقولها.