لعل ما قادني لكتابة هذا المقال هي عملية الخلط الغربي المتعمد إلى حد الإحلال بين الحضارة والثقافة من خلال عبارة صدام الحضارات المغلوطة والمضللة. تحت هدف هو في رأيي الحرب على ثقافة الأمة. وهو الأمر الذي يستوجب استكمال الموضوع في مقال أخر يتناول مدلول الحضارة ، ليكون الرابط جاهزا حين الحديث عن المستهدف من عبارة صدام الحضارات.
وابتدأء أقول إن مدلول الثقافة لا يحيط به تعريف ولا يحدده مصطلح لسعة نطاقه، فتأتي التعريفات وكأنها لحساب جانب على أخر، . ومعروف أن الثقافة ككلمه تعتبر محدثة باللغة العربية بمعنى أنها لم تكن متبلورة في حياة العرب ولا في آادابهم ، إلا أن مدلولها ومكوناتها كمصطلح غربي معاصر موجودة ومحط إهتمام في تراث الأمة ، لا سيما من واقع تقاليدها الاجتماعية ومعتقداتها الدينية كمكون أساسي للثقافات. وقد لا يكون مصادفة أن جذر الكلمة في اللغة الإنجليزية هو cult بمعنى عبادة أو دين. وإذا ما تلمسنا التعريفات الغربية للثقافة التي لسنا بصددها ، نجد المعتقد حاضرا فيها
ونذكر بأن عوامل الجغرافيا والتاريخ واللغة والمعتقد الديني كعوامل راسخه لدى المجموعات البشرية ، تكون عادة من أساسيات تشكيل وبلورة خصوصية الثقافة لأمة ما. تسبغ عليها هوية معينة من ناحية وتسهم في تشكيل رسالتها من ناحية ثانية.. ومن هنا فإن الثقافة تبقى دائما في حالة نمو وتقدم من خلال إنفتاحها على الثقافات الأخرى. ولا يمكن أن يكون لها سقف تقف عنده , حيث أن وقف مثل هذا النمو يعني وقف نمو الأمة نفسها .
فالإنسان يولد مزودا بقدرات يتميز فيها عن باقي المخلوقات تدفعه لأنماط سلوك فطري يكون من خلالها مدركات ذهنية و حسية تشكل بالنسبة له الثقافة الفطرية. وهذه تضاف الى الثقافة المكتسبة التي تراكمت لجانبها من خلال التعلم والمحاكاة ومعايشة الأحداث والشعوب الأخرى . هذا إلى جانب ما يطوره الإنسان من سلوكيات إجتماعية وأخرى موجهة تم التخطيط لها مسبقا . وحتى لو عممنا وقلنا بأن الثقافة مرآة للشعوب ، إلا أنها تبقى مسألة تجمع بين التجارب المكتسبة عبر الأزمنة والعصور وبين التجربة النفسية للفرد .وبهذا يمكن القول بأن الثقافة عندما تنتقل من الفرد أو تتخطاه إلى مجموعة بشرية أو مجتمع معين فإنها تشكل ثقافة لتلك المجموعة أو الأمة
. ويكتمل مفهوم الثقافة ليصبح بمعنى منظومة كاملة تشمل جميع الخصوصيات الموروثة والمخزونة والمكتسبة التي تمس أو تتعلق بقيم ومعتقدات وعادات وتقاليد وطبائع وسلوك ومكونات السلوك لحياة وطريقة حياة تلك المجموعة المعينة ونمط تفكيرها وأدابها . بما فيه طريقة التواصل الأسري والإجتماعي وكيفية تعاملها مع الأشياء ومع الأخرين , ومعايير الخير والشر والخطأ والصواب والعيب واللاعيب عند هذه المجموعة أو الأمة والصفات الحميدة واللاحميدة برأيها ، وطرائق اللبس والأكل والمأكولات والسكن والمساكن وأدوات الفن والطرب الموروثة ونغمة الألحان التي اعتادت تذوقها . ومن هنا فإن من شأن هذه الثقافة أن تبلور رسالة لأصحابها وللغير يرتبط إيصالها واستيعابها بقدرتها على الهضم . وبقدرة المثقف على حسن التوظيف لمفردات معرفته .
إلا أن مكونات الثقافة المار ذكرها لا تشكل حزمة واحدة عصية عن التغيير بل فيها من الجزئيات ما يمكن أن يطاله التغيير أو التطوير أو الصقل أو التعديل بمرور الزمن ، وبحكم التطور الحضاري والإنفتاح والإختلاط بمجتمعات أخرى وحسب إنسانية وإنفتاح تلك الثقافة ومقدرتها على الهضم . أما ذلك الجزء الأهم من ثقافة الإنسان أو المجتمعات فهو المعتقدات أو الدين . ليس لكونه مكونا راسخا ومصدرا أساسيا لها فحسب ، بل لأنه مكون مؤثر في العديد من الموروثات الثقافية الأخرى التي سبقته ، وباعثا أساسيا في بناء الحضارات . والدين كمكون ثقافي فإنه إذا ما ترسخ لا يخضع للتغيير بمرور الزمن والتطور الحضاري , ولكن يمكن له أن يخضع للتطوير أو التثوير أو الصقل ، وأن يعمل بصورة مباشرة أو غير مباشرة على نشر جزئيات من الثقافة ذات الأصل الديني أو تلك التي قبل بها الدين وتبناها ورسخها . والدين بهذا المعنى من شأنه أن يؤهل الثقافة للإنتشار والعمل على تغيير نمط سلوك مجتمعات بشرية أخرى أو التأثير فيها على الأقل .
وبهذا يمكن قياس درجة ثقافة الإنسان بكم المعرفة المخزونة والمكتسبة والتي يقف عليها أو يستوعبها من ثقافات و علوم الأمم والشعوب الأخرى إضافة الى ثقافة أمته وبقدرته على توظيفها , والمثقف بهذا المفهوم يصبح الأقدر على تفهم السلوكيات في المجتمعات المختلفة وتفهم اهتماماتها وحاجاتها وبالتالي الأقدر على التعامل مع الاخرين والأشياء بنجاح وبالتالي على الانتاج . والأهم من هذا ، أنه هو الذي يسوق الثقافة ويحملها للغير بل هو الذي يحولها من حالة السكون إلى الحيوية والنشاط ولكنه في كل الأحوال لا ينشئ ثقافة على الإطلاق …
والسؤال هنا هو هل يؤدي تفاعل الثقافات المختلفة للأمم أو الشعوب في جو العولمة والإنفتاح الحر في النهاية إلى ثقافة عالمية مشتركة ؟ بمعنى أن تذوب أو تنهزم ثقافة ما لمجموعة أو لأمة . إن الجواب يكون من خلال الموضوع الهام والمحوري الذي يقود اليه هذا السؤال مباشرة وهو مسألة الغزو الثقافي والإنهزام الثقافي . فالأمة التي لا تمتلك ثقافة إنسانية ولا عالمية فإنها تكون أمة مهيأة لأن تمارس عملية الغزو الثقافي لثقافات الأخرين , وتكون أيضا مهيأة لأن تكون فريسة لغزو ما من قبل ثقافة أخرى وتنهزم ثقافيا . وبهذا فإن طبيعة مكونات ثقافة ما وقدرتها على التطور والهضم ، وطبيعة رسالتها ونمط التفكير الذي تطوره تلك الثقافة هو الذي يجعل منها ثقافة حية بمعنى منفتحة وقادرة على تقبل والجيد في الثقافات الأخرى . أو يجعل منها ثقافة متعصبة ومنغلقة وغير قادرة على هضم ما في الثقافات الأخرى .. والثقافات متعددة بتعدد الأمم والشعوب ، تتباعد و تتقارب وفق معايرها وطبيعة الرسالة التي تحملها ، وتتمايز في كثير من مكوناتها وتطلعاتها ، حتى في إرثها الحضاري المادي وغير المادي كفن العمارة وحروف الكتابة والفلسفة على سبيل المثال . فالثقافات في تنوعها وجدت لتبقى ضمن قاتون التنوع الإلهي والطبيعي لغايات نبيلة . وفي محكم قوله تعالى / يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفو //. وفي هذا أيضا الإثبات بأن الثقافة العربية الإسلامية ليست صدامية ولا قمعية .