انقسم الرأي في الشارع العربي وبين محلليه وربما لأول مره بشأن عملية لحزب الله، وذلك إثر عمليته الأخيرة في شمال فلسطين. فبصرف النظر عن مصيب او مخطئ فإن الأراء كلها بنيت على تقييم لحزب الله وإيران فيه حمولة زائده. وهذا له انعكاسات سلبية على قضيتنا الفلسطينية. مما دعاني لكتابة هذا المقال.
إيران لديها مشاعر عن عظمة تاريخها الامبراطوري، ولديها مشاعر عن دورها الفكري والثقافي في التاريخ الاسلامي والارتقاء به. ولديها بالمقابل مشاعر امتهان ومسخ في عهد الشاه الى دولة عميلة وخنجر في خاصرة تاريخها، وأخر في خاصرة المسلمين والقضية الفلسطينية. ونهضت قبل عقود في ثورة شعبية كانت باكورتها ثلاث رسائل عاجله، هي عودتها لجلدها الوطني القومي، ومقاومة المشروع الغربي الصهيوني في المنطقة، والعودة لوجهها الاسلامي. وتَرجمت ذلك بضربتين جذريتين عاجلتين لأمريكا ولاسرائيل في طهران، نعرفهما. وكان الموقف العربي الرسمي السلبي من التحول الايراني مضللا وخطأ استراتيجيا بحق مصالحنا وقضيتنا.
ولدى بوادر اندلاع الثورة الايرانية ثم نجاحها وتغَيُّر الحالة السياسية الايرانية، تغيرت السياسة الأمريكية إزاء ايران نفسها، وإزاء طبيعة الاستخدام المطلوب منها ومن دول المنطقة العربية. واتخذت أمريكا هدف تحويل الصداقة والتحالف السابقة بين ايران والدول العربية الى حالة عداء وجَعْل الخليجية منها تشعر بالتهديد الايراني وتشتري منها حمايتها مقابل مقدراتها وتعظيم خضوعها للمشروع الصهيوني وخدمته. ولم تصبح ايران بعد التخلص من عراق صدام وللأن مستهدفة من أمريكا لا بالاستعمار ولا بالعمالة ولا بإضعافها عسكريا. بل بإبقائها قوية مع السعي لكي لا تكون معادية للمصالح الأمريكية في المنطقة ومحايدة في الصراع العربي الاسرائيلي وبما يشبه سلوك بقية الدول الاسلامية. ومشروعها النووي ليس محل خلاف استراتيجي بل محل ضغوطات تفاوضية، فليس هناك من منطق ولا قوة تستطيع منع ايران من أن تصبح نووية.
ايران كانت وما زالت تطمح لتحقيق مشروعها على مقاسها وشروطها في فرض دولة اقليمية حره بحضور دولي، وعصية على الاخضاع وعلى أي ابتزاز سياسي او عسكري وعلى أي تأثير خارجي مستقبلي على طموحاتها وقرارها الوطني، وكان ذلك ما يوجه سياستها بدءا ببناء قوة ردعية وإزالة كل المعيقات أمام مشروعها. وهذا المشروع لدولة اسلامية في المنطقة العربية بخصائصها لا يتفق مع مصالح الصهيو- غربيه وأطماعها حتى لو كانت ايران صديقة لها. ولذلك لم تتوقف الضغوطات يوما على ايران منذ ثورتها. وكان عليها أن تواجه معركة الضغوطات وتستخدم لها كل ما يتاح ويؤثر على امريكا والغرب.
وبهذا كانت ايران وما زالت تعلم بأن اسرائيل خط أحمر لأمريكا وللغرب ونقطة ضعف الأم لابنها، وبالتالي صيدا ثمينا لها. فجعلتها على رأس استهدافاتها بالاستخدام في معركة الضغوطات. فلا ايران ولا أية دولة غير عربية لا تفهم بأن النظام الدولي لا يسمح لها بأخذ دور أصحاب الأرض بتحرير فلسطين، كما ليس هناك من دولة وخاصة غير عربية لا تقدم مصالحها القومية ودرئ الأخطار عن اراضيها ومكتسباتها على غيره، بل دساتيرها لا تسمح بذلك.
واسترسالاً، فإن إيران كانت وما زالت ترى كل دول المنطقة العربية فاشله وضعيفه ولا تشكل بحد ذاتها تهديدا لها ولمشروعها ولا منافسا. إلا أن هذه الدول أصبحت بالنسبة لايران قواعد عسكريه وماليه تستغلها وتستخدمها امريكيا واسرائيل ضدها. ولذلك فإن ايران لا تعتبر نفسها في حالة حرب مع الدول العربية كدول ولا تستهدفها، بل تستهدف مستخدمها. ولكنها أي ايران في حالة حربها مع امريكا او اسرائيل ووقوع الفأس بالرأس ( وذلك مستبعد )، ستستهدفها كهدف مشروع وتستهدف بالذات نجد الذي خرج الشيطان من قرنها نحو المشرق.
ومن هنا فإن السياسة الايرانية الحالية التي تواجه بها امريكا وضغوطاتها وتعيق مشروعها، قامت وما زالت تقوم في الدول العربية والمنطقة على ثلاثة مسارات. الأول، منافسة امريكا واسرائيل في وضع اليد على ما يمكنها من دول عربية بصفتها كلها مرتمية ومشروع امريكي صهيوني للاستخدامات المهينة وعلى رأسها ضد ايران، والثاني وضع اسرائيل تحت التهديد وتحت رحمتها، والثالث محاولة توعية وكسب صداقة الدول العربية الخاضعة لأمريكا وكبح جماحها. ونجحت في اتجاهين وفشلت في كسب صداقة العرب. ومن هنا سعت وركزت ايران على مسارها الأول في حشد دول عربية لمقاومة الوجود الامريكي والصهيوني وبما يعزز مسارها الثاني في وضع اسرائيل تحت الخطر والذي سنأتي عليه في الفقرة التالية. ومن الطبيعي أن تلتقط ايران في ظل الظروف العربية القائمة” ورقة الطائفية السياسية ” ونجحت في ذلك في عدة دول عربيه، على أن يكون مفهوما بأن نفس الورقة يستخدمها غيرها لكل الطبخات الفاسدة ولصالح الصهيونية بالذات.
نتحدث عن مسار وضع اسرائيل تحت الخطر، الذي تولاه حزب الله في لبنان لأنه متاخم لرقبة اسرائيل وهو مسار لا أعظم منه ولا أنجح وعزز من نجاح وقبول باقي المسارات وحجَّم اندفاع امريكا واسرائيل وأذلهما ا بكل ما يملكونه من تفوق. ومعلوماتي التي يؤيدها الواقع أن هذا الحزب وسر نجاحه المنتج لا يقوم على مجرد المال والسلاح بل على الدرجة العالية التي يتمتع بها كادره من الوعي السياسي والثقافة النضالية والتنظيمية والصلابة، تَفَوقت فيها على كل التنظيمات الأيدولوجية السياسية في العالم. وحرص الحزب على أن يستند الى شرعية شعبية عربية واسعه تقف وراءه ووراء حلفائه، إنه بمثابة دولة قوية تمتلك ميزة توازن الردع بداخل دوله. هذه القوة الردعية يوظفها الحزب لخدمة لبنان وسيادته الوطنية على قراره وأراضيه، ويكسبه ذلك شرعية سياسية دولية ومميزه في لبنان لا تستطيع تجاوزها أي جهة سياسية لبنانية مهما كانت ضغوطات امريكا…
أن إسرائيل التي تعلم بان حزب الله هذا قادر على تدمير نوعي لها وتهجير سكانها الذين كلهم مستوطنين، وتعلم بأن قواعد الاشتباك القائمة بينها وبين حزب الله هي التي تحمي هؤلاء المستوطنين وتمنعهم من الرحيل كما تحمي لبنان من الأضرار، تدرك بأن حزب الله هو في النهاية ايراني وقراره الأخير ايراني، لكن الأهم أنها تدرك بأن رجاله عرب وقيادته عربية واعية، وفكرة التحرير عندهم موجودة. ومن هذه النقطة تتشكل لدى اسرائيل معادلة صعبة جدا تجعل هدفها الأساسي ينصب على تفكيك الحزب أيديولوجبا وإزالة وجود فكرته، وهذا لا يكون بالمواجهة العسكرية معه ولا مع ايران، بل بالمواجهة السياسية لايران القائمة حاليا على الضغوطات الاقتصادية وغيرها، وهي ضغوطات ليست كافيه في ظل المعادلات الدولية المستجدة مما يبشر بتنازلات أمريكية غربية لايران قد يدفع العرب الثمن الأكبر فيها بمنهجية،..
بناء على ما تقدم من طرح يمثل وجهة نظري نخلص بنتائج اربع هي:
الأولى: أن القضية الفلسطينية والاحتلال مسئولية تخص العرب فلسطينيا وقطريا وقوميا لأنها مسألة سياده على ارض وهكذا هو المفهوم الدولي و القانوني والنظام الدولي. وبأن اسرائيل لا تنتهي ولا ينتهي احتلالها بجيش كلاسيكي، فلو دمرت فسيعاد بناؤها، وأن ما يكسر التابو أو الحظر الامريكي الغربي الصهيوني ويعجزه ويرضخ له ويتوافق مع الشرعية الدولية لا يكون إلا بالمقاومة الشعبية بمفهوم حرب التحرير الشعبية المسلحة ضد الاحتلال، بالتحالف مع كل دولة أو جهة تدعمنا.
الثانية: حزب الله ليس حركة تحرير فلسطينيه أو عربيه بقدر ما هو مقاومة ردعية وتهديديه لها انعكاساتها الايجابية على فهم الشعوب العربية لأنظمتها ولاسرائيل ولطريق التحرير. ومن هنا فإن أي تقييم واعي لحزب الله يجب أن ينصب على محاكاة فكرته في فلسطين كحركة تحرير فلسطينيه رغم ما في ذلك من صعوبات. أما تقييم سلوك حزب الله في قوله وفعله وعملياته العسكرية بمعزل عن سياسة ايران ومصالح ايران وأوجاع ايران وقرار ايران لن يكون تقييما دقيقا بل مضللا وهذه حقيقه كالمسلمة. ولو كانت سوريا على سبيل المثال قادرة على أخذ دور ايران لتغير الوضع الاستراتيجي لحزب الله.
الثالثة: ان حزب الله في معادلته بين لبنان واسرائيل يضرب مثالا للمواطن العربي على أنه ودولته ووطنه ليس بأيد أمينه، فليس التحرير مطلوبا من الأنظمة العربية، ولكن دولها مستهدفة ولديها وخاصة دول الطوق الحاجة الماسة والامكانيات لبناء ردعية حزب الله على أرضها لتحقيق السلامة الوطنية لها ولشعبها وأرضها وقرارها الوطني، ولتصبح عونا للقضية الفلسطينية لا عوننا عليها. وكل لحظة تمر على أي من هذه الأنظمة ولا يباشر إلى التغيير هو فيها نظام فاقد لشرعيته الدستورية والشعبية والأخلاقيه. وهذه مهمة الشعوب بعد أن انحلال الجيوش وتحويلها لأداة على أوطانها وشعوبها.
الرابعة: أننا نحن كدول عربيه من شكل عبئا وقضية لإيران فرضناها عليها، وأن ايران ليست قضيتنا، بل من منافذ نجاتنا من العدو الصهيوني وما زالت.