عندما نتحدث عن ورشة البحرين فإنما نتحدث عن سيرورة صفقة القرن وأبعادها. فهذه الصفقة معنية في هذه المرحلة في أن تُسوق نظرتها للقضية الفلسطينية كقضية مطوية سياسيا، وبأن الصراع الفلسطيني الاسرائيلي في النزع الأخير ومحصورا بمقاومة غزة التي يجري استيعابها، وبأن ما تبقى من القضية هي أثارها الانسانية المتعلقة باللاجئين الفلسطينيين وتوطين غير الموطن منهم في الأردن كجناح شرقي لفلسطين يمارسون فيه حق تقرير المصير. وبأن هذا الأمر شبه قائم لا ينقصه سوى تغييرات سياسية وادارية في الاردن وفلسطين، وأن تبعات التوطين مالية واقتصادية هي مهمة دولية وعربية.
فالبعد الرئيسي المطروح في الصفقة متعلق في الواقع بطوي ملف الصراع العربي الاسرائيلي في شرق أوسط جديد تدمج فيه اسرائيل كقوة اقليميه متحالفة مع الأنظمة العميلة، وهذا التصور الاسرائيلي الذي تتبناه الادارة الأمريكية مطروح على النظام العربي الرسمي بعد أن وُضِع الأخير في موقع العجز والرضوخ وأولوية البحث عن مصالحه في الحكم أولاً والسلامة ثانيا من خلال حالة ابتزازية برسم الاستخدام. وبأن هذه المصالح ستكون مرهونة بتعاونه في المطلوب منه على مراحل بمهماتها تبدأ بتصفية حق العودة بالتوطين والوطن البديل، ولا تنتهي.
فورشة البحرين هي استهلالية لصفقة القرن على طريق ضرب العصفورين الفلسطيني والعربي بحجر واحد. لكن العصفور الفلسطيني الذي يتم تصوير قضيته في الورشة على أنها استقرت ببعد انساني ويمكن حله بالمال والزمن، بالتوطين والوطن البديل، هو في الواقع نسر جارح بجناحين ممتدين ومخالب تمزق جسد التصور الاسرائيلي الأمريكي برمته ولا ينال الحجر منه. وأن هذا النسر قادر على جعل كل ما تحقق من وعد بلفور من جانب واحد قصة من الماضي خرافية. والوضع في الضفة والقطاع سيتغير لصالح وحدة الشعب وقرار المقاومة.
فمسألة اللاجئين الفلسطينيين وحق العودة وممارسة شعب لحقه في تقرير المصير على تراب وطنه ومفهوم الاحتلال هي قضايا لا يتجاوزها الشعب الفلسطيني ولا الزمن، ولا سهل تجاوزها بالتفوق العسكري، ولا تُسوَّى بالتنازلات. وإن اسرائيل كفكرة استعمارية إحلاليه تفهم ذلك وتُضلل الادارة الأمريكية وتستغل نوعيتها المتقدمة صهيونيا والمتخلفة سياسيا وتستخدمها لتجاوز البعد السياسي للقضية الفلسطينية واعتباره سهلا ويذوب من خلال طوي ملف الصراع العربي الاسرائيلي أو بتحويل الصراع الفلسطيني الاسرائيلي الى صراع فلسطيني عربي.
ومن هنا فإن ورشة البحرين التي تنظمها أمريكا والمصممة لرفع مستوى تطبيع النظام العربي الى تعاون معلن مع اسرائيل، عنوانه اقتصادي ومضمونه سياسي هدفه الاجهاز على ما لم ولا تستطيع القوة الاجهاز عليه، وهو ارادة الشعب الفلسطيني بحقه في تحرير وطنه والعودة اليه. وإن هذه الورشة التي تشكل وسيلة جس نبض لردات الفعل االعربية والفلسطينية الشعبية، تشكل بنفس الوقت نموذجا مصغرا واستهلاليا لمؤتمر واسع تدشن فيه الصفقة ويوضع الأساس لتشجيع دول العالم على مباركة خيار أنظمة العرب، لا خيار الفلسطينيين.
وإن شعار أو مسمى هذه الورشة الذي حاء بصيغة “السلام من أجل الازدهار” هو عنوان يخاطب الشعبين الاردني والفلسطيني وليس الأنظمة، ولا يمكن أن يعني في غياب هذا السلام بين طرفي النزاع إلا “الخضوع من اجل الازدهار “. بصرف النظر عن وهمية هذا الازدهار. إنهم ماديون يؤمنون بميزان الربح والخسارة المادية بعيدا عن المثل والحقوق والمبادئ والقانون. ولو كان بمقدورهم تصفية الشعب الفلسطيني لأنهوا الأمر على هذه الشاكلة.
الانفراج الاقتصادي على الشعب الفلسطيني في فلسطين خاصة ليس هدفا امريكيا او اسرائيليا، بل مستهدفا لجعله آلية طاردة للشعب الفلسطيني ومحل ابتزاز سياسي. فمع اطلالة الصفقة بدأت الهجمة الأمريكية على الاقتصاد الفلسطيني وحصاره وعلى معيشة الفلسطينيين من خلال اغلاق كل الأبواب التي كانت قائمة. حيث اوقفت عمليات الوكالة الأمريكية للتنمية ومشاريعها في فلسطين وأوقفت المساعدات المقدرة ب 350 مليون دولار، وقطعت مساعدتها وتمويلها لوكالة غوث اللاجئين (الاونروا) وشددت الحصار على غزة وشعبها. إذاً بأي معنى يمكن فهم وتقبل الذريعة الاقتصادية للصفقة بورشة البحرين، وبأي معنى تكون المشاركة العربية فيه؟ فالمعنيان متكاملان في الهدف.
إن كل مشاريع التسوية السابقة قد رافقها العامل الاقتصادي لتمريرها، ومرت بعضها على حكامنا وشعوبنا، ومنها كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربه وكانت النتيجة تهويد فلسطين وإنكار حقوق الشعب الفلسطيني وتدمير تلك الدول بالذات اقتصاديا، وتجويع شعوبها وإخضاع حكامها وأنظمتهم ورهن دولنا.
ومما تقدم فإن ورشة البحرين تمثل عملا عدائيا مباشرا ضد القضية الفلسطينية والشعبين الأردني والفلسطيني، وأسلوبا مورس في فترة كان العرب فيها بموقع أفضل مما هم فيه اليوم وسقط وبقيت تداعياته. وكل من يشارك في هذه الورشة الخاينة فإنما يشارك في خطوة أساسية لصفقة التصفية وفي العمل العدائي على القضية والشعبين الشقيقين والأمه.
وقد لمسنا رفضا قاطعا وواعيا ومعللا من رجال القطاع الخاص الفلسطينيين لدعوة الخزانة الأمريكية لهم لحضور الورشة، رفضاً بمعناه السياسي الذي يقوم على أن النهوض بالشعب الفلسطيني لا يكون قبل استرداد حريته وإزالة الاحتلال وتلبية طموحاته الوطنية، وأن هذه هي أولويته وهذه هي العربة حين يراد لها السير للأمام، وأن معاناة الشعب الفلسطيني الاقتصادية منبعها هذا الإحتلال ولن ينهيها غير إزالته، فليست الشعوب من تفاوض على الأوطان بل خونة الحكام.
إلا أن النموذج الفلسطيني الذي شاهدناه إن كان هو المشهد الكامل أو المشهد الذي سيبقى دون اختراق، فإنه من غير المضمون أن ينسحب ذلك على الساحة الأردنية وبعض الدول العربية من غير دول الخليج التي يقودها العلم الصهيوني. حيث يخضع الكثيرون في القطاعات الخاصة ومؤسساتها الأهلية في الاقطار العربية الأخرى لإملاءات الأنظمة أو تشجيعها أو حياديتيها، ويقدم البعض مصالحه وجشعة على مصلحة الدولة والوطن والقضية المقدسة لضعف التربية الوطنية كمسئولية تخلت عنها معظم الأنظمة العربية باسم الحرية الشخصية في غياب مفهوم الخيانة عندها.
وبهذا على كل المطبعين في الأردن أن يدركوا بأن هذا التطبيع في البحرين هو سياسي ومكشوف هدفه. وأن المشاركة فيها هي مشاركة في حرب على الاردن وفلسطين وشعبيهما، وليس شأنا خاصا. ولن يفلتوا من المسئولية الوطنية والشعبية.
وأخيرا علينا أن ننتبه الى سلوك الدول الأوروبية وأعضاء مجلس الأمن الدائمين، ونستطيع القول بأنها تتخذ موقفا متواطئا مع الصفقة عندما اختطفت قضية دائمة على جدول أعمال الأمم المتحدة والمجلس. فصمتُ هذه الدول وإحجامها عن موقف وازن منها، يمثل انقلابا واضحا على دبلوماسية تعاملها المعهود مع مبادئ ميثاق الأمم المتحدة الذي كتبوه، ونسفا لأسس تسوية النزاعات في الفصلين السادس والسابع، التي لا تعمل بالصفقات، وقبل ذلك احجامها الصارخ عن تطبيق ما يحكم الحالات الاحتلالية على الحالة الفلسطينية، والأهم من كل ذلك فإن هذه الدول بسكوتها عن إسقاط دولة كبرى شريكة لها للأسس القانونية ولقرارات الجمعية ومجلس الأمن التي تشكل جزءا من القانون الدولي بشأن القضية الفلسطينية يؤكد على خطورة ثقتنا واعتمادنا على الأوروبيين، وبأن نظرية الأمن الجماعي في الميثاق لا تشملنا كعرب.