التعتيم عنوان والتعديلات استباقية

استند المنتقدون والناقدون للتعديلات الدستورية الأخيرة الى أرضيتين كلتيهما ليس منتجا . لأنهما لم يقوما على السبب الحقيقي من وراء تلك التعديلات وذهبوا الى افتراضات غير منطقية وأسباب هي في الواقع سطحية ولا تقنع بأن سياسيا بحجم الملك يقدم على تعديلات من أجلها بهذا العمق غير المتفق مع النظام السياسي الذي ينص عليه الدستور والجدلية وطنيا في هذه المرحلة . فهؤلاء المنتقدين والناقدين لم يبحثوا عن سبب التعديلات ومراميها ، بل أبدوا دهشتهم منها أوتناولوا الأسباب التي زينت لهم ووضعت أمامهم ليختاروها بعيدا عن الحقيقة .
أما الارضية الأولى المدعى بها فقامت على مجرد الرغبة في اعادة إنتاج اشخاص فاسدين لا برغب بهم الشعب . وهذا وإن كان فيه نوعا من الصحة إلا أنه تبسيط للأمر ولا يمكن أن يكون هدفا لتعديلات عميقة بل ربما عاملا مساعدا في اطار سيرور تحقيق الهدف . أما الارضية الثانيه فقامت على أساس أن هذه التعديلات تشوه الدستور وتمعن في ايجاد التناقضات بين مواده وتخل بتماسكها وترابطها وبتكاملية الدستور وتربك شكل النظام السياسي القائم لتذهب بامتيازات الملك فيما يخص تلازم السلط مع المسئولية . وهذه الأرضية غاب عن أصحابها أن الملك ليس بهذه السهولة ولا هو أقل دراية منهم بمثالب التعديلات، وأنه هو صاحبها بالضرورة كخيار له مدروس ومحسوب ، ولها ما يبررها عنده لا عندهم .
علينا أن نكون صادقين بقول ما نعتقده إن قلناه ، وأن يكون مسببا عند طرحنا له وليس من هوى أوتمنيات. والمهمة امام المهتم هي أن يحاول بالتحليل الوقوف على الهدف الأساسي من تلك التعديلات مع الأخذ بالإعتبار أن الإلتزام بالقانون ليس عدلا في كل الحالات ولا المساواة عدلا في كل الحالات ، وأن هناك مفاضلة بين الخطر والأخطر . والملوك ليست أنبياء معصومة ولا تتخلى عن الدفاع عن مواقعها إذا ما تهددت .
وفي تحليلي لدوافع التعديلات فإني أنطلق من التوقف عند أكثرها غرابة وتساؤلا وأقلها خطورة ، وهي تلك الخاصة بصلاحيات الملك في تعيين اصحاب المراكز المسماه . فالملك يعلم كما يعلم كل الاردنيين بأنها صلاحيات موجود له على الارض ويمارسها بنفسه وصاحب الولاية فيها ، ولكنه يعلم ايضا بانه يفعل ذلك على شكل يخالف نص الدستور وروحه ، والجديد أو المستجد من وراء التعديل هو أنه يريد أن يمارس هذه الصلاحيات بنص من الدستور وأن يصبح هذا حقا مكتسبا له، ومتاحا له ممارسته في كل الظروف . فهو يريد أن تكون تلك المراكز بيده ومن حقه الدستوري في أي ظرف سياسي قادم أو محتمل قدومه . ومن هذه النقطة بالذات نضع يدنا على المفتاح الموصل لدوافع هذا التعديل الأبسط والتعديلات الأخرى الأهم التي رافقته
إن الظرف السياسي القائم في الاردن اليوم مرتبط بالظرف الدولي القائم ،ومتورط بالسياسات الداخليه في مسألة التركيبه السكانيه الجديده التي وضعت بالميزان برغبة وبتغطية دوليتين من خلال عملية الإحصاء الديمغرافي الأخير.والتي يبدو أن نتائجها دلت على المطلوب دوليا وتهيء له . ومن يتابع ما يرشح في بعض المقالات والتصريحات على المستوى الدولي والفلسطيني يدرك أن الأردن له دور كبير وأساسي في نتائج المخاض العسكري والسياسي في المنطقه .
والتعديلات الدستورية الاخيرة والتي أصفها بمرحلة من سيرورة تجري لمستقر لها هي تعديلات سياسية تمهيدية واستباقية لمرحلة قادمه . وقد يكون بعضها ناتج عن تخوفات ملكية أو في سياق ضمانات له في حسابات متفق عليها ، فالجيش والأمن هم القوة الحاسمة والدرع الواقي وقت الشدة في بلد كالأردن ، والقضاء هو القوة الحاسمة وقت السلم والإفتاء . أما التعديل الأهم فهو الذي ينطوي على دسترة ازدواجية الجنسية . فهذا أمر لا تقدم عليه دولة وضعها كوضع الاردن السكاني والسياسي وفي هذا الظرف الدولي إلا في سياق ترتيبات دولية لمرحلة مقبلة متوخاة .
لا شك أن هذه التعديلات فيها خلط لأوراق سياسية كبيره وتعبر عن مرحلة سياسية قادمة ، حسابتها وهواجسها هي في عقل الملك . وليست في عقل رئيسي الحكومة والديوان ولا تبدو أنها من اهتماماتهما الطافية على السطح . وعندما تحدثت الحكومة بكلمتها اليتيمة عن أن ما وراء تلك التعديلات هو التمهيد للحكومات البرلمانية دون توضيح او تفصيلات ، فإنما تعلم كغيرها بأن مقومات وأسس الحكومة البرلمانية غير موجوده ، ولكن الأرجح أن يكون قد أوحي اليها ذلك ، وربما أوحي إليها التصريح بذلك .
إن هذا الإيحاء لم يكن من فراغ ولا بعيد عن الواقع إذا قلنا بأن الحديث يتعلق بحكومات برلمانية في حقبة سياسة قادمه ومتوقعه ، وهذا افتراض مبني على تحليل له معطياته . فأي شكل من أشكال الخيار الأردني الذي يلوح في الأفق سيكون ملبيا لشروط تقتضي نفحات من الديمقراطية وسلطات بيد الشعب بتركيبته الجديده . وهو أمر سيخلق مرحلة جديدة لها فترتها الانتقالية بخصوصياتها الامنية والسياسية التي قد لا تكون مواتية . والملكية الدستورية مثلا ستكون مطلبا مطروحا رغم أنها ليست خيارا ملكيا او اردنيا قبل أن تنضج أسباب القبول بها . وهذه مسائل تشكل تحديات لسلطة الملك .
أختم بالقول أن هناك تسارع في الأحداث التي تخص مستقبل الفلسطينيين والأردنيين يدل عليه التسارع في السلوك الرسمي الإنفرادي من ناحيه ، والتعتيم على الحكومة والشعب على أسباب وأهداف وجدوى ما يتخذ من قرارات وإجراءات من ناحية أخرى ، وباتت المسائل البديهي معرفتها من قبل ناس الوطن ألغازا لهم . فهل التعتيم وعدم التسبيب هو عنوان المرحله . ولمصلحة من ؟