التفاوض والصفقة والقدس

التفاوض عمل فني متخصص في إطار سياسي، يقوم على خبره وثقافه وقدره وذكاء ونباهة. يظلله الاخلاص لتحقيق هدف محدد. والهدف في حالتنا العربية كأصحاب قضية هو الحفاظ على مصلحه وطنية أو قومية او تحقيقها او درئ مفسده ، ومحله الوطن وإنسانه، ونجاح التفاوض مرتبط بتوفر أسسه المادية والشخصية لدى المفاوض ، وبالمنصة التي ينطلق منها كبداية للعملية. وعليه فان التفاوض يتولاه من يجمعون هذه الصفات . أما القادة السياسيون فيحددون لهم الهدف ويراقبون النتائج ولا يوجهونها ، وإلا فسد العمل . فاذا كانت السياسة فن الممكن فالتفاوض هو فن السياسيه ليتعظم الممكن ولا يكون خط النهاية . ان القادة السياسيين في الوطن العربي ينصبوا أنفسهم مفاوضين وهم ليسو كذلك ، ولا يتركوا المهمة لأصحابها فتصبح الارض والمياه والحقوق محل مقايضة . فكل معاهدات السلام العربية الإسرائيلية على سبيل المثال كانت ثمرة عمل دبلوماسي في الكواليس اجراه القادة السياسيون فتمخضت عن نتائج محسومة سلفا في قالب صفقه . ليفقد التفاوض أسسه ومعناه وهدفه .أما المفاوضون الفنيون فكانوا رديفا ديكوريا وشكليا . فالقرار السياسي كان في المحصلة بمعزل عن التفاوض . والمثال الأخير هو سد النهضة على النيل الذي قبله الرئيس الحالي بعد ان رفضه أحد اسلافه ولم يكن للمفاوضين الدور الحاسم في القرار .
إن المفاوضات الحرة الجادة وغير الشكلية تكون طويلة وصعبة جدا إذا كانت على طاولة فيها ميزان القوة مختلا .وذلك لعدم جدواها لأحد الطرفين وحاجة الاخر لها ، وينتهى هذا النوع من التفاوض إلى الفشل إذا بقي حرا نظيفا ليبدأ التفاوض من جديد . أما إذا كان هناك تدخل للقادة السياسيين فهذا يعني أن هناك صفقة ستجري على ظهر المتفاوضين يعتريها الغبن في النتيجة . وأتذكر كمثال ، الاجتماع الاول بين وفدي سوريا واسرائيل في واشنطن ضمن عملية مدريد ، فمع ان مرجعية التفاوض كانت واضحة في القرار 242 ( الارض مقابل السلام ) إلا أن الوفد الاسرائيلي الذي يصر على الأرض والسلام معا ، عندما لاحظ غياب القادة السياسيين عن التفاوض أدرك غياب الصفقه ، فبدأ بطرح مطلب مستهجن لعدم رغبته أو حاجته لتفاوض جاد غير مضطر له . وذلك حين قال رئيس الوفد الاسرائيلي للسوريين على الطاولة نحن نريد منكم أن تنسحبوا من اراضينا المحتله . وليتصور القارئ هذا الكلام وكم سيأخذ من الوقت ليتم تجاوزه وكم سيولد من احباطات لدى المتفاوضين السوريين. وكم هو التفاوض فاشلا . والمثال الأخر هو في صعوبة وفشل المفاوضات على المسار الفلسطيني لسنين طويلة .فعدم تمكن قادة السلطة من التدخل لحسم الامور بصفقة على طاولة المفاوضات أدى لعبثية التفاوض وفشله على يد اسرائيل.
اعود لمسألة المفاوضات حول القدس ، فاسرائيل لا تريدها إلا إذا كانت في الكواليس والزوايا المحصورة مع قادة سياسيين لتحصل منهم بالابتزاز على مسلمات عريضه تتفق مع رؤيتها وتكون هي الارضية للتفاوض فيما بعد . وأنا هنا لا اتكلم عن مبدأ التسويه والذي يقوم من وجهة نظر اسرائيل على البعد الديني في التاريخ التوراتي وهو بعد لا يعتد به بالقانون الدولي ومبادئ ميثاق الامم المتحدة ومع ذلك يتقبله العرب ويطالبون بحصتهم في فلسطين . بل اتكلم عن الملعوب الاسرائيلي المنطلي على القادة العرب والمتمثل بتمكن اسرائيل من التلاعب بمحل التفاوض عندما جعلته على قدس جديدة صنعتها لتكرسها ويكون التفاوض عليها ومن عندها .
إن الواقع الجغرافي والسكاني والقانوني القائم حاليا في القدس والذي بني بعد احتلال عام 67 ، يبدوا فارضا نفسه على أي تصور لتسوية مسألة القدس . وبدلا من مناقشة العرب لقانونية ومشروعية هذا الوضع كوضع باطل وغير معترف به من وجهة نظر القانون الدولي وقرارات مجلس الامن وميثاق الامم المتحدة نراهم انجروا للتعامل معه وقبول الانطلاق منه في التفاوض كما سبق وانجروا لقبول سيادة اسرائيل على القدس الغربية من خلال القرار 242 . فعن أي قدس نحن نتكلم ونتفاوض اليوم ؟ لا شك بأننا عندما نتكلم عن القدس ونتفاوض عليها فيجب ان يكون ذلك عن القدس الشرقية كما كانت علبه قبل حرب ال 67 وليس عن قدس جديدة صنعتها اسرائيل
لترسح في اذهان المجتمع الدولي والعرب شكل القدس الجديد وتظفر بالقدس الشرقية كما فعلت بالغربية .
إن لم يتجاوز العرب هذا الواقع القائم في القدس على الارض ويرفضوا الانطلاق منه ، ويفرضوا على كل الرؤى والمشاريع الدولية عدم الانطلاق منه كواقع يكرس التهويد بطريقة خادعة ، فسيكونوا خاسرين مهما توهموا وستكون اسرائيل رابحه مهما قدمت من تنازلات وبالتالي لن يكون حلا مقبولا للشعوب العربيه . اما رفض هذا الواقع فيتمركز في تحديد مفهوم مساحة وجغرافية وديمغرافية القدس الشرقية التي يراد تسوية مشكلتها ، وبما يستثني ويزيل الواقع الاستيطاني المحسوب على القدس والغزو اليهودي للقرى والاحياء العربيه في داخل القدس وضواحيها وإبطال ضمها وواقعها القانوني الجديد وأن يكون ذلك شرطا معلنا للبدئ بأية عملية تفاوض حول القدس . وهو ما يفترض عدم الرضوخ للتابو الدولي والاسرائيلي على اعادة القدس الى قدسين شرقيه وغربيه بسيادتين كما كان عليه الوضع قبل الاحتلال ، وتنفيذ قرارات مجلس الأمن الخاصة بالقدس .
إن اسرائيل عندما تعلن سيادتها على كل القدس وترفض إعادة تقسيم المدينة ،إنما تتناقض مع التزامتها المعلنة في اتفاقيات السلام على اساس مرجعية مدريد والقرار 242 . كما تتناقض مع اتفاق اوسلو الذي اعتبر القدس موضوعا خاضعا للتفاوض في مرحلة لا حقة او نهائية . وسواء كان موقف اسرائيل المعلن ينطوي على موقف اسراتيجي او على موقف تكتيكي فان الموقف العربي الذي ابتلع هذا وانتهى سقفه عند القدس الشرقية بالمجان ، فإنما انتهى دون توضيح عن اي قدس شرقية يتحدثون ودون اصرار على معالجة وتحديد جغرافيتها وديمغرافيتها ويكتفون بتقديم عروض تبادل في الاراضي والادوار في الحرم ، مما يشكل مفارقة سياسية في عالم وعلم التفاوض ويعطي اسرائيل أرضية مرتفعة ودفعا تفاوضيا على حساب الرؤيا العربية، التي تهز من مصداقية وجدية العرب في دعواهم التاريخية في القدس وتجعلهم في وضع تفاوضي ينزل بهم لخط المحظورات الذي لا يستطيعون تجاوزه وقتل عرفات دونه.
واذا ما انتقلنا إلى رؤية الأمم المتحدة فنحن نبتعد عن الواقع اذا لم ناخذها في سياقها كمجوعة دول كبرى منحازة فحسب . فالواقع ان مجلس الامن هو النظام الدولي القائم والمطبخ السياسي لهذه الدول تعمل من خلاله على عدم الدخول في حرب بينها عن طريق ابتعاد كل منها عن مصالح الاخرى الاستراتيجية او عن مصالح حلفائها الاستراتيجيين . ومن هنا جاء ميثاق الامم المتحدة خاليا من النص على ايجاد التسويات في النزاعات الدولية وفرضها على الاطراف واكتفى بالنص على الوسائل السلمية لتسوية النزاعات. اما الجمعية العامة التي نعول عليها وصدرت عنها معظم القرارات المؤيدة للقضية الفلسطينية فهي غير موكله بموجب الميثاق بالبت والتقرير في المسائل السياسية الدولية الخاصة بالسلم والامن الدوليين، وقراراتها هي مجرد توصيات غير ملزمة ولا اثر لها اكثر من اعلامي بهذا الصدد وعلينا ان لا نكتفي بها ولا نعول على مشاريعها كجهاز غير مقرر ولا منقذ .