يبدو أن روسيا قد اكتشفت بأن ما كانت تتوقعه من تدخلها العسكري المباشر في سوريا هو مجرد سراب تشكل على تقدير خاطئ . لقد كانت مخطئه عندما اعتقدت أن أمريكا تسمح بانهيار نظام الأسد قبل تأمينها للبديل واستحضار خطئها في العراق ، وكانت واهمه عندما اعتقدت أن بامكانها حسم المعركة على الأرض لصالح النظام ، ومخذولة عندما راهنت على دور جيش الأسد وحلفائه ، وعجولة في سعيها لتصبح دولة عظمى ، في وقت أصبح فيه العالم سائبا ومنفلتا ، بل ربما أنها قدمت خدمة لادارة اوباما في ذلك وتحملت مسئوليات لا تريد تحملها . ومما سببه تدخلها هذا أنها حولت وجودها السياسي والعسكري المشروع منذ عقود في سوريا إلى ما يشبه الاحتلال .
لكن الأمر لا يقف هنا ، فهناك نتائج سياسية وأدبية قد ترتبت على قيادة بوتين ادخلتها في دوامة أشبه بورطة . ليس من واقع كيفية إنهاء حملتها العسكرية المكلفه من المستنقع السوري المصومل ، بل من واقع أن تدخلها هذا جعل منها طرفا مسئولا مباشرة عما يحدث ، وجعل منها إن لم تحسن عملها ،عدوا للأطراف السورية ، السياسية والعسكرية المتوقع أن تشكل مستقبل القيادة السورية ، مما يهدد مستقبل الوجود الروسي في سوريا القادمه .
أمام هذه الورطه ، يبدو واضحا أن روسيا اضطرت للتعامل مع قصة فشلها ونتائجه بإقحام نفسها بشكل جدي في تحريك وتسريع عملية التسوية التفاوضيه في سوريا حتى لو كلفها ذلك خلط اوراق واسقاط بعضها ،مستفيدة في ذلك من إخلاء أمريكا الساحة لها وانفتاح كل الاطراف عليها . وإن هذا ، الى جانب أن فينا 1 لم تستطع تحريف تفاهمات جينيف 1 ، قد حفزها على التفكير بأكثر مسئولية وواقعية وحس بمواقف الأخرين ، وستضطر للاستفادة من فينا 2 و وفينا 3 كفرصة لها للمناورة وتذليل ما تستطيع من عقبات . وستحاول في مرحلة ما طرح مشروع لوقف اطلاق النار في سوريا حتى لو كان هشا ليكون مخرجا لها في وقف تدخلها العسكري المكلف . ونراها اليوم تساوم على الكثير من مواقفها السابقة إزاء اطراف اللعبة الأخرين ، وتتجاوز ما كانت تعتبره محذورات وممنوعات ، وتتجه لكسب مناوئي نظام الأسد والاعتراف بدورهم .
إن سوريا بالنسبة لروسيا ليست مجرد ورقة سياسية قابلة للمقايضة بسهوله ، بل موقعا عسكريا استراتيجيا لحماية مصالحها في مواجهة الضغوطات الأطلسية، وإن دعمها لنظام الأسد هو على هذه الخلفية لا على خلفية ايدولوجية او عرقية او دينيه ، ففي الوقت الذي ترى فيه نفسها غير قادرة على ابقائه في السلطة فإنها ستضعه في سلة أوراق المقايضه ،و بالتالي ستتعاون مع الأطراف أو القيادة السورية المحتمل سيطرتها على القرار السياسي في محصلة الأزمة القائمه . بل ستحاول الاسهام في بلورة وصنع تلك القياده . فهي تعلم أن شرعية نظام الأسد لم يعد لها مقوم على الارض وأنها شرعية نظرية بفعل التوافق الدولي نظرا لعدم وجود البديل . لكن معضلة روسيا في هذا قد التقت مع معضلة أمريكا المتمثله في تجميع الاطراف السورية المعارضه في جبهة سياسية مفاوضة واحدة .
وعليه فإن روسيا مضطرة لأن تسعى لتأمين مستقبل وجودها العسكري في سوريا من موقعها الحالي الجديد بسلبياته وايجابيته عليها من خلال عمليه تفاوضية تستبعد تقسيم سوريا ،وسيكون ذلك بالضروره على حساب تحالفها مع محور ايران– حزب الله — الأسد .. فهي تعلم أن مقوم هذا المحور هو الطائفية ، وهدفه الأساسي هو بقاء سوريا بيد النظام العلوي الممثل حاليا في الأسد دون وجود بديل علوي له ، في حين أنها أي روسيا التي أصبحت في عجالة للوصول الى عملية سلمية تصادف عقبة الرفض القاطع والعنيد من المحور الاخر وحلفائه في قبول الأسد في مستقبل سوريا . ومن هنا فإن تحقيق مصلحة روسيا الأساسيه التي أصبحت مرهونة بتسوية تفاوضية ورفض تقسيم سوريا ، تتناقض مع مصلحة أو هدف محور ايران .وأصبح عليها السعي لتغيير موقفها ودورها ، ولكن في سياق تقايضي لمصلحتها . وهنا تصبح روسيا أمام خيار ثلاثي الأبعاد لتحقيق التسويه .
وخيارها هذا ، هو أن تستغل سيطرتها على النظام السوري حاليا وتحاول تطويع ايران للقبول بخروج آمن ومرضي للأسد من اللعبه لضمان سوريا موحده ،والاسهام بإزالة باقي العقبات لتأمين طاولة مفاوضات برعاية امريكية روسية تجمع نظام الأسد والاطراف الساسية السورية المعارضه ، وتكون مرجعية هذه المفاوضات حكومة انتقالية تضم كل الألوان السورية دون شخص الأسد تؤسس لدستور يضمن سوريه موحده وديمقراطية ، ثم الاتفاق على طبيعة وخطوات انتخاب رئيس او مجلسي الرئاسة والتشريع طبقا لذلك الدستور ، مع إيجاد تفاهم يضمن استمرار الوجود الروسي العسكري التقليدي بعيدا عن أي تدخل سياسي . . كما تؤسس طاولة المفاوضات هذه وبالتوازي مع العمل السياسي لتحالف أمريكي روسي بمشاركة دولية واسعة لتصفية داعش والتنظيمات الارهابية مع ترك مهمة تهيئة البيئه الاكاديمية للقضاء على فكرة داعش الى العرب .
وهذا الخيار الروسي يستلزم مواجهة ثلاثة مسائل هامه يجب أن يتم التفاهم بشأنها مسبقا لنجاح أية تسويه تفاوضية
الأولى ضمان موافقة اسرائيل كأمر مهم لأمريكا وروسيا . فاسرائيل تحتل الجولان ، والجولان هذا الذي ضمته منذ عقود يمثل لاسرائيل مصدرا للمياه يزودها ب 40% من احتياجاتها ، وفيه اكتشافات نفطيه واعده ، وكما يمثل موقعا جغرافيا استراتيجيا حيويا لاسرائيل . وكل ذلك كان في منطقة الأمان مع نظام الأسد النائم على هذا الوضع ولم يكن يفكر بالتفاوض ولا بالحرب لاسترجاع الجولان ، وحيث أن عملية التسويه ستفضي على الأغلب الى دولة سوريه ديمقراطية فسوف لا يكون هناك مجال لتركها الجولان محتلا ، وهو الأمر الذي يشكل محذورا اسرائيليا .. فهذه معضله ستكون حاضرة وليس حلها مستحيلا .
الثانيه ضمان موافقة ايران . وهذه مهمة روسية يفترض أن تكون سهله طالما أن روسيا تسيطر على نظام الأسد وطالما أن ايران لن تضحي بصداقة روسيا التي تؤمن لها الدعم السياسي في المحافل الدوليه والدعم التكنولوجي وربما يصار الى وعدها بتأمين انفتاح دولي عليها وعلى مصالحها وتأمين دور لها في الساحة العلوية السورية تحافظ من خلاله على تواصلها مع شيعة لبنان
الثالثه هي الاتفاق على تصنيف التنظيمات المقاتله بين ارهابيه يصار الى استهدافها ، ومعتدلة يصار الى اشراكها بعملية التفاوض . وما لم يتم الاتفاق على التصنيف المقبول للجميع فسيصعب اتخاذ قرار بوقف اطلاق النار ويصعب التحالف ضد داعش وبالتالي لن يكون هناك توازيا أو تزامنا بين عملية التخلص من داعش وبين العملية السلميه