صدام الثقافات في قلب الحرب

أستحضر هنا مقولة حرب أو صدام الحضارات ….. والأمة تواجه حربا غير شفافة طبيعتها ولا حدودها ، وهي المقولة التي اختلقها وصدرها الكتاب والساسة الغربيون لتنتشر وتتكرس كوصف مدعى به لطبيعة وسبب ما أسموه بظاهرة الإرهاب الإسلامي ، وكمبرر لشن تلك الحرب الأمريكية المدعومة أوروبيا . عنوانها عسكريا ، وفعلها يتعامل سلبيا وبقسوة مع مفاهيم ونتائج اجتماعية ثقافية ، واستغلوا لتسويق تلك المقولة ، أحداث الحادي عشر من سبتمبر وعلى أنها من قبيل حرب الحضارات ، بهدف حشد تعاطف شعوبهم ، ومسوغ لجلب التأييد الدولي . لكن الوصف فاسد ، والمبرر زائف . فمقولة صدام الحضارات ليست صحيحة علميا ومنطقيا كما بينا ، وابتدعت للتمويه والتضليل في استغلال واضح للتداخل الطبيعي بين مفهومي الثقافة والحضارة ، وتطويره بشكل مثير وصل حد الإحلال بين المدلولين . وهم يعرفون أن حضارات الشعوب متكاملة في صنعها وعامة في ملكيتها وفائدتها ، بل هي ملتقى الشعوب ومحلا لتعاونهم ، لكن الثقافات هي التي تختلف وتتمايز بين الشعوب وتشكل نمط حيوات مختلفة لهم ، وهي التي إذا ما تمددت وخرجت من موطنها يمكن لها أن تولد الصدام في حالات معينة . ولها في ذلك شروط تتعدى طبيعتها الى طبيعة ونتائج تفاعلها مع غيرها ومع قبول هذه النتائج .
فالمقولة لم تأت عبثا ولا من فراغ بل جاءت هادفة في إطار ما فصلته عقول صهيونية تقاطعت مصالحها حتى العظم مع مصالح أمريكية غربية يفترض أنها حيوية للغاية . استلزمت صنع حرب نشهدها ، هي أشبه ما تكون بالغزو على حملات بهدف خفي عبر عنه يوما بزلة لسان بوش الأبن .إنها بالضرورة حرب استباقيىة تجيء من وجهة نظرهم على شكل الدفاع عن النفس ، من خطر غير معلن افتراضا حسبوه بدقة . تاركين النخب العربية يخوضون غمار التساؤلات عنه أو عن سبب مقنع لهذه الحرب . وابتدأت تلك التساؤلات مع تحول السياسة الأمريكية مع العرب وقضاياهم من سياسة منحازة وطاعنة من الخلف الى سياسة مواجهة تعتمد التدمير والاستباحة والموت على أرضية من شأنها تشويه صورة المعتقدات العربية والاسلامية والتشكيك فيها . أما طبيعة هذه التساؤلات فتنصب على ماهية المستهدف الحقيقي من هذه الحرب . وبهذا فإن الحيثيات القائمة على الارض تسقط العوامل الاقتصادية كهدف قديم للاستعمار وأي هدف مادي أخر ولم يعد هذا يحتاج لحرب ، فأمريكا تضع يدها على النفط العربي منذ التسعينيات وعلى كل موقع عربي استراتيجي وما زالت . والحرب مكلفة لها ماليا وخلقيا بلا مردود مالي ، والحكام العرب متطرفين ومعتدلين يتسابقون على استرضائها ويضعون ثروات الأمة وسياساتهم أمامها وفي خدمتها حتى لو اقتضى الأمر في خدمة اسرائيل ، ومع هذا لا يسلم أحد منهم من الاملاءات والابتزاز .
وفي صلب الموضوع وهذا التساؤل ، فإن الكاتب الأمريكي صموئيل هينتنغون الرائد والملهم في هذا الخلط والتضليل وأحلال مفهوم الحضارة محل الثقافة ، والمطلق الأول لمقولة صدام الحضارات في مقاله المنشور في مجلة foreign affairs في عام 1993 ، قد أصدر كتابا في عام 1996 بنفس اسم المقال ، أقام فيه نظريته بصدام الحضارات على احلال فكرة الحضارة محل فكرة الدولة أو القومية ، وعلى أن ما يحرك التاريخ وأحداثه ليس الاقتصاد بل اعتبارات الثقافة والفكر والدين . وافترض أن الحضارات تتصادم بالضرورة . وتكلم عن صراع قادم بين الغرب والاسلام . وقسم العالم لقسمين غربي وغير غربي . وادعى أو موه بوجود حضارات معاصره متعدده في العالم ووصل إلى نتيجة اعتباطية تقول بخطر الحضارتين الاسلامية والكونفوشية على الغرب
إن شيوع وتناقل مقولة فكرة صدام الحضارات في في البلدان العربية وربطها بالارهاب لا أبعد من ذلك ، قد ابتلعه الحكام العرب واشتركوا بالحرب دون حساب . لكنها من جانب أخر ولدت نقاشا نخبويا على مساحة الوطن العربي قائما على الشك والتحليل لوضع اليد على ماهية وطبيعة المستهدف من هذه الحرب ، لكنهم لم يخرجوا بالنتيجة الى ما هو أبعد من العموميات بربط الهدف بالمشروع الصهيوني وتفتيت المفتت واخضاع الخاضع ومسخ الممسوخ . لكن ذالك كله مهما كان فيه من جزئيات صحيحة يعتبر في ضوء ما مر وسيمر كلاما مبسطا لا يتسق مع حجم وعمق الهجمة ولا ينسجم مع طبيعتها ومع خلق المقولة والوصف والسبب االمنطقي لها وما ترتب عليها ، ولا بالتالي مع الهدف الحقيقي لهذه الحرب . الذي لا يحول دون إعلانه سوى خلوه من المسوغ القانوني ولادبي والاخلاقي ،و بما يكفي لافشاله .
ان مما لاشك فيه أن هناك استهدافا أمريكيا غربيا لمتعلق ما موجود فعلا وغير مادي ، من متعلقات الأمة يرى الغرب بالضرورة أن له في استهدافه مصلحة كبيرة . أو درءا لخطر كبير قادم عليه ، الى الحد الذي يبرر كلفه ، وبالضرورة فإنه ليست حضارتها . فالحضارة العربية أو الإسلامية لم تكن يوما عبئا على الغرب بل عونا له . أما عن بيت القصيد ، أقول فإن الفتوحات الإسلامية التي وصفها الغرب بمعجزة العرب لم تكن وليدة حضارة العرب ولم يكن أصلا هناك حضارة إسلامية أو عربية فد تبلورت بعد . بل أن ما كان وراء الفتوحات الإسلامية وكل ذلك هو الثقافة العربية الإسلامية بمقوماتها .. .فهل هي المستهدفة اليوم؟ . إن هذه الثقافة من وجهة نظر ساسة الغرب ومفكريه كثقافة تأبى الا أن تزاوج الروح مع المادة ، والقابلة للهضم برسالتها الانسانية والروحية ، تشكل خطرا وشيك الوقوع عليهم من خلال تأثيرها على معتقدات وسلوك ونمط ونهج حياة الغرب التي كافحوا مئات السنين لتحقيقها ولا يساومون عليها .
وعلينا أن نتذكر في هذا أن أمريكا لم تكن حربها الباردة مع الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي مع كلفتها الباهظة عبثا أو مجرد حب بالنزال والمبارزه ، بل كانت لما تراه في الفكر الشيوعي والثقافة التي سعى لنشرها السوفييت من خطر يستهدف نهج ونمط حياة الغرب بقيمه الإجتماعية والإقتصادية والسياسية وبالتالي ثقافته بمفهومها الشامل .
أما لماذا استهداف الثقافة العربية الاسلامية الأن وليس قبل ذلك ، فلأنها لم تكن في ذلك الوقت تشكل اولوية أو خطرا مباشرا لنهج ونمط حياة الغرب . أما اليوم فمع شيوع خطاب الديمقراطيات وحقوق الانسان في الغرب الى جانب البئية الطاردة في الوطن العربي والإسلامي فقد غصت اوروبا وامريكا بالعرب مع ثقافتهم التي من شأنها التأثير على نمط حياتهم لكونها ثقافة قابلة للهضم والتأثير (ولم يبق في الميدان سوى حميدان ). وليس الحل بطرهم ممكنا ولا حلا كافيا ، ولكن استهداف ثقافتهم في عقر دارها ومنابعها وإشاعة صورة مشوهة عنها هو الحل الجذري ومتاحة ظروفه . لنستطيع القول أن ما يرهب حكام امريكا والغرب ليست قوة السلاح المادية للأخرين . وما داعش والقاعدة إلا مشروعيتهم في الحرب ووسيلتهم المختصة في تشويه ثقافة الأمة . صنعوها أم غذوها فلا فرق في ذلك . بل ما يرهبهم هؤلاء الأخرين المسالمين بين ظهرانيهم بجذورهم وبما يحملونه من فكر وثقافة سويتين . ومن الطبيعي هنا أن يحصل الغزو الثقافي على طرفي المعادلة وبالاتجاهين وهو الامر الذي يولد فكرة حماية المجتمعات لثقافاتها عندما تكون مهيئة للهزيمة ، أما التي تحمل أسبابا بقائها وحماية نفسها فلا تقهرها الجيوش ولا التفوق العسكري
.