من الطبيعي في بلادنا كأي بلد لا تحكمه مؤسسية النهج الديمقراطي أن يكون تقنين معالجة بعض التهم وعقوباتها شأنا لا يخلو من التسييس ، لا سيما من تلك التي لها مساس بنهج الدوله وحرية التعبير . ويصبح من الطبيعي لدى التطبيق أن تكون الحكومة أو أذرعها هي من تحرك القضية المتعلقة بهذا الشأن ، وعندما تريد نفض يديها من الموضوع لضعف القناعة العامة بطبيعة التهمة فإنها تحرك طرفا أخر لتحريك القضية . لكن الملاحظ أن الحكومات تمارس التطنيش عن بعض المخالفات أو الخروقات المفترضة بالقانون ولا ترى حاجة في ملاحقة المرتكب لها لسبب أو أسباب ما غير واضحة أو معروفة . وهذا من شأنه أن يخلق فخا للمواطن ، لا سيما الناشط . حيث يتولد اعتقاد لديه بأن القانون غير مفعل أو أن هناك مرونة في التطبيق ، ويمضي في ممارسة نشاطه استنادا لحقه في التعبير عن رأيه دون خوف من طائلة القانون . لا سيما وأنه يعلم بأن الجرائم السياسية بمفهومنا قد اختفت من تشريعات الدول المتحضرة التي تعتمد الديمقراطية وقوانينها ، وتعتبر هذه التهمة هي نفسها جريمة بحد ذاتها ، حتى عدنا لا نسمع اطلاقا بمساجين أو معتقلين سياسيين على خلفية التعبير عن الرأي في تلك الدول . بل أن الدول الدكتاتورية أو الديمقراطية المزيفة باتت لا تنكر مفاهيم العيب والتخلف والرجعية في تقنين ملاحقة السياسيين المعبرين عن الرأي الأخر ، واختارت الإختباء وراء التصفيات الجسدية المسجله في النهاية ضد مجهول.
وعلينا أن نعترف بأن مختلف التهم التي لها مساس بالسياسة هي في بلادنا تكون على خلفية أمنية أو على خلفية الحد من حرية التعبير ، وقانون الارهاب يشمل معظمها نصا ، وكلها ضمنا وتفسيرا . لكن سياسة التطنيش عن بعضها التي توحي للبعض بمرونة حكومية في التطبيق هي في الواقع سياسة هلامية من شأنها أن تضلل البعض عن غير وعي منهم فينجر للقضاء ثم للسجن وهو يقول لماذا أنا فقط . وإذا ما بحث الباحث في هذه المفارقة وهذا السلوك الرسمي واستبعد بنفس الوقت وبالضروره الانتقائية العبثية للحالات وللأشخاص ، فإنه يصل لنتيجة منطقية ، هي أن المشرع الرسمي للقانون يضمنه نقاطا غاية في الشمولية بلون واحد تشكل خطا بلون واحد ، والمسئول عن تطبيق القانون لدى وقوع المخالفة يستعرض تلك النقاط ويتخذ أحد القرارات الثلاثة إزاء المخالفه ، فإما يدكن أحداها بالأحمر لتصبح المخالفة وكأنها جزئية من خط أحمر ، فيصبح المخالف تحت طائلة القانون والملاحقه ، أو يتركها بلونها فتكون المخالفة من فبيل المرونة في التطبيق ، أو يدكنها باللون الأخضر فيكون المخاف وكأنه قد مارس حقه في التعبير عن رأيه ويزيده ذلك تشجيعا . وهنا فإن قرار المطبق للقانون المتخذ على هذه الشاكله يحكمه الظرف السياسي المتغير بين يوم وأخر دون أن يعرف المعني ذلك ، ويصبح الأمر كله مرتبطا مباشرة بالسياسة الداخلية أكثر من ارتباطه بالقضاء ، فالقضاء على حالته الراهنة ليس عصيا على التسييس
وللإيضاح في هذا ، فإن بلدا بمواصفات الأردن موقعا ونشأة وأمكانيات وارتباطات لا يمكن لسياسته الداخلية إلا أن تكون مرتبطة بسياسته الخارجية وفي خدمتها. وتلك المواصفات تفرض على السياسة الخارجية بأن يكون الغموض والهلامية وعدم الثبات من خواصها بالضرورة ، كونها تصبح سياسة مواقف تتغير بتغير الأحداث والتحالفات ، وهذا بدوره ينعكس على السياسة الداخليه . ولكي لا تبدو القوانين الداخلية التي تخدم هذه السياسة مؤقتة أومرتيطة بأحداث معينة ومتغيرات خارجية ، فإن واضعها يعمد إلى أن تكون شاملة وتتجاوز عنوان القانون بعناوين فرعية وبعبارات حمالة أوجه يسهل على مطبق القانون اختيار العنوان والوجه المطلوب في حينه وظرفه . فالقانون هنا لا يتغير بل تتغير أسس مرونة تطبيقه من جهة والشطط في التفسيرات من جهة أخرى ، كما يتغير حجم العقوبه طبقا للتغير في نقاط الخط الاحمر من حيث دكانتها ، ولا يعود السياسي المحنك قادرا على تلمس الخط الأحمر المعتمد بنقاطه .
إلا أن المشرع القانوني يقصد من التشريع غير ما يقصده المشرع السياسي . فيقع المعبر عن رأيه في فخ تسببت به سياسة المواقف المتغيرة حين لا تكون معروفة أو حين يعتقد المعني أن القانون لا يشملها استنادا لتجاربه ومشاهداته السابقه . لكننا نفهم أن المشرع عندما يشرع فإنه يضع نصب عينيه تحقيق مفهوم العدل المتزاوج مع غاية الردع في سعيه لحماية الصالح العام وحقوق المواطن . وذلك يكون على أرضية من الشفافية ومن أن الصالح العام هو واحد والمواطن واحد والموسم الذي يطبق فيه القانون هو نفسه ما دام هذا التشريع سائدا . فليس من القوانين ما هو قابلا للتجزئة أو الانتقائية وليس منها موسميا . فالمشرع القانوني ينهي عمله ويسلم أمانة التطبيق لغيره على قياس مقاصد التشريع . وإن إخراج التشريع النافذ عن سياقه القانوني ، أو التعامل مع التهم من خارح ما قصده المشرع هو بمثابة غياب القانون .. ومع أن القاضي كمفعل ومطبق للقانون وكذا المنفذ لا يأخذان بجهل المواطن بالقانون سواء كان الجرم أو التهمة على خلفية خط أحمر أو غيره ، إلا أن مصادر التشريع التي يستهدي بها المشرع لا تهمل عنصر النيه الحسنه ولا عنصر الرحمة والاعتدال . ولا نعرف على من تقع المسئولية حين وقوع الخلل ، أهي على الحكومات أم على القضاء .
ليس من واع لا يعرف أن القضاء عندما يكون جهازه غير مستقل ماليا وإداريا ، وعناصره غير متحررة من حظوة أو غضب السلطة التنفيذية وغيرها ، لا يمكن أن يكون قضاء محصننا يحقق العدالة في كل الظروف . فالقضاة بشر فيهم صفات البشر ولهم حاجات البشر ، وإن عدم الحرص على المغانم حين تقايض بالنزاهة لا يصل لمستوى عدم الحرص على درء المفاسد حين مقايضتها بالنزاهة ، والحالات الفردية لا تفسد القاعده . وفي ضوء هذا نتساءل كيف تكون حالة القضاء في دولة تسيس القضاء وتستخدمه وسيلة فيما يعنيها ، وتتركه وقضاته وشأنهم فيما لا يعنيها . لا شك أن اختيارها للصف الأول من القضاة ومديري القضاء يكون على الأقل مضمونا لها لتطويع النصوص أو اضفاء الشرعية على ما يعنيها من مسائل جدلية ، ولا شك عندها أن يكون بقية الجهاز في الصفوف الأدنى قضاة واداريين مضمونا بوكالة الصف الأول . لكن المشكلة هنا تتوسع لكي تتخطى القضايا التي تهم الحكومات وسياساتها ، لتطال القضايا التي تهم عامة الناس وحقوقهم عند الصف الثاني الذي يعرف حقيقة أساتذته في الصف الأول وسيوفهم .