قنابل تنوير وطلقة تحذير

. ما أحوجنا وأحوج ظرفنا نحن الأردنيين مواطنين ومسئولين الى وقفة تأمل على نور فيها اتعاظ . يمهد المؤلف الفقيه الدستوري لجهده التنويري الهادف لاصلاح حقيقي ، بتحليل واف لتطور الحياة السياسية والقانونية في اوروبا بتجاربها المريرة وصولا لاستقرار انظمتها العصرية واكتمال منعتها . وبما يوفر ارضية موثقة لمادة المؤلف وخلاصاته ، وعبرا لنا لا يحسن تجاهلها . فكما يرى المؤلف، فإن جمع الملك مع السلطة أمر قد هجرته البشرية ، ولم يعد له وجود في العصر الحديث . هجرته بعضها بحكمة أو اتعاظ ملوكها ، وبعضها بعد ان انفجرت هذه الشعوب بوجه أنظمتها . والحسرة أن صائغي دستورنا قد هجروا أنظمة الإستبداد الهادمة للدول ، ولكننا ننقلب عليه بالتطبيق .

يؤكد المؤلف على أن الدستور الاردني لعام 1952 والمعمول به حاليا بصرف النظر عن تعديلاته ، تؤكد نصوصه الصريحه على أن نظام الحكم المرسوم في الأردن هو برلماني بملكية دستوريه ، أو أن تفعيلها وتنقيتها كفيل بترسيخ هذا النظام لتوفر ركائزه الثلاث مع متطلباتها في نصوص الدستور . فالشعب في النص مصدر السلطات ، والفصل بين الملك والسلطة بائن وتلازم السلطة مع المسئولية أكثر بيانا ، لكننا لا نعيش نظامنا السياسي الذي يحقق الاصلاح الحقيقي . وهنا المشكله.

لكنها مشكلة معروفة أسبابها المنطلقة من الجنوح عن التطبيق الأمين والصحيح والمترابط لنصوص الدستور وكلماته ، والعزوف عن التعامل مع مواده كمواد لبناء واحد متكامل ، وعن إعمال مواده بشكل مرتبط بإعمال المواد الأخرى بالتكميل أو عدم التعارض ، وهو ما لا يضمن أن يكون الشعب مصدر السلطة كغاية أساسية في النظام البرلماني ويفسد بقية الركائز في الدستور . والمؤلف في هذا يتكلم عن حزمة من الأسباب مع الأمثلة الحية على صعيد مختلف السلطات والقرارات والتعديلات الدستورية . بدءا بإحجام أصحاب الاختصاص عن ممارسة اختصاصاتهم وتركها للملك ووصولا لوسائل إفراغ النصوص الدستورية من مضمونها ودلالاتها بوسائط وتفسيرات تجد بركتها في الهوية السياسية للمجلس العالي للتفسير ، يردفه تعطيل لوصول لاحزاب وقوانين مخالفة للدستور، و إفراغ استقلالية القضاء من المضمون باكتسابه الهوية السياسية أيضا ، وكذا من حيث مجلس النواب وهويته . والمطالبة بالاصلاح قد استغلت في تعديلات دستورية تأتي على نحو يناسب المخالفات لتصبح مباحة في النصوص ، ليأتي التعديل الأخير الخاص بتعيين الملك للقادة العسكريين معزولا عن بناء الدستور ومتناقضا معه ومغيبا لمبدأ المحاسبة وبالتالي مؤطرا بالنص للملكية الرئاسية . حتى اصبح النهج الأردني فريدا في الغرابة من بين دول الدساتير البرلمانية . وكل ذلك تحت وطأة غياب مؤسسية الحكومات وأولويات المصالح الخاصة للمنتفعين من البطانات وما أسماهم المؤلف بسلاطين الخفاء على حساب الإضرار بالملك ومصلحة الدوله . ويحمل المؤلف المسئولية في كل هذا الى الشعب أولا الذي كبا بعد صحوه غاب الخوف عن ساحتها ، ثم الى هؤلاء المستفيدين الذين أصبحوا ملكيين أكثر من الملك وأساؤا اليه عندما حولوا صلاحياته المحدودة والرمزيه الى سلطات مطلقه

يوضح المؤلف بلغته وقراءته القانونيتين ، بأن نصوص الدستور مكرسة لتثبيت ركائز ومتطلبات النظام البرلماني بملكية دستورية . فالنص صريح على ركيزته الأولى بأن الشعب هو مصدر السلطات وصاحب السلطه ، وهو الذي يفوضها وليس الملك . وصريح بأن منصب الملك مصدره التوارث ، والسلطة مصدرها الشعب . ليؤكد هذا على وعي النص في أن الشعب يعطي حق ممارسة السلطة للمجلس الذي ينتخبه بموجب قانون دستوري ، وهناك النصوص على صون الحرية الشخصية وحرية الرأي والتعبير ليكون المجلس معبرا حقيقيا عن ارادة الشعب . وهناك النص على تشكيل الاحزاب التي ترسخ هذا النظام وتؤطر العملية السياسية لتشكسل الحكومات من رحم الأغلبية في مجلس النواب حين يكلفها الملك الملتزم دون غيرها ، إذا ما فعلت مواد المتطلبات التي تهئ لتفعيل المادة 35 من الدستور وفي إطاره المتكامل ،وهي المادة التي يصر عليها سلاطين الخفاء والمنتفعين ، حرصا منهم على وجود السلطة الفعلية بيد الملك .

أما الفصل بين الملك والسلطة كركيزة ثانية ، فالملك بالنص والممارسه يمارس صلاحياته بإرادة ملكية تكون مرفوعة اليه من الحكومة أو من رئيس الوزراء والوزراء المختصين ، وهي في واقعها المفترض ممارسة من الملك لا تعدو (ومن الخطأ أن تعدو ) مجرد التوقيع على ما تعرضه عليه الحكومة من قوانين وقرارات ومراسيم وغيرها ، وتوقيعه بنص الدستور والممارسه يتلو تواقيعهم ومستندا إليها ، ولتصبح الاراده الملكيه وتتأكد بأنها ارادة الحكومه ، أما ارادة الملك فهي في توقيعه عليها . وإرادة الحكومة هنا تعبر عن ارادة الشعب كونها تحصل على ثقة مجلس النواب ممثل الشعب . وليس من الصواب استحلاب الثور حليبا فاسدا بتفسير خاطئ لكلمة هي ( تناط ) تفسير معزول يفرغ النصوص من مضمونها وينقلب على مقصد المشرعين وطبيعة النظام . إن الإناطة بالإرادة تعبر عن معناها النصوص المتكاملة ولا تعني أكثر من إصدار الإرادة الملكية على النحو الوارد في المادة 40 . … فليس للملك سلطة التشريع ولا سلطة أخرى منصوص عليها بالدستور سوى سلطة منع نفاذ تعديله طبقا للمادة 126 ، وتجميد القانون لستة أشهر استنادا للمادة 39. ولكن للملك الحضور في كل السلطات والرمزية الوطنية وبروتوكولات الرؤساء والتقدير المميز . فهو رأس الدولة . وكل ذلك وأكثر أمنتها له مواد الدستور منها 27 ، 30 ، 31 32 ، 33 ،37 ، 38 ، 39 . وإن تفريغ النصوص من مضمونها هي التي جعلت الملك هو الأصل يتم التوجه إليه لاستيحاء توجهاته في غياب الرقابه .

وبناء على ذلك وعطفا عليه وانسجاما مع الركيزتين المار ذكرهما فقد حققت نصوص الدستور معطيات الركيزة الثالثه بتلازم السلطة والمسئولية ، عندما أخلت الملك من التبعة والمسئولية بحكم منطق ومضمون نصوص الدستور قبل حكم القانون . فالمسئولية ملتصقة بأصحابها صياغة وقرارات وتعليمات ، وبمنفذيها . والمادة 39 التي تخلي الملك من التبعة والمسئولية لم توضع من فراغ ولا إيحاء من الدستور أو المشرعين بعصمة الملك أو بفوقية له على القانون ، بل لأن الدستور لم ينط به مسئولية سياسية أو تشريعية أو تنفيذية حتى يحاسب عليها ، بل أن الدستور في مادته 49 قد أغلق الباب عليه وحذر المحجمين عن ممارسة اختصاصاتهم أو مفوضيها للملك بأن مثل هذا السلوك لا يعفيهم من المسئولية الدستورية والمحاسبه ، ولم يحمل هذه المسئولية وتبعاتها للملك حتى لو كان ممارسا لمسئوليات غيره . وفي هذا أيضا رفضا مسبقا للإنحراف عن النظام البرلماني أو الانقلاب عليه .

فهل تتحقق أمنية المؤلف بتلبية حاجتنا الى اصلاح حقيقي وتغيير جذري في النهج يؤسس لحكم يربط النظام السياسي بشعبه دون وسطاء بعيدا عن بطانة بقاء الحال ، ويعيد دستورنا لعائلته البرلمانيه في اطار الصياغة التوضيحية المقترحة لنصوص في الدستور في ضوء معالم الطرق المبحوثة في الكتاب ؟ .