زيارة بوتين لمصر.. هل تسقط الامبراطورية ومخططها

إن زيارة الرئيس بوتين الى الرئيس السيسي في هذا الظرف الشاذ والمقلق الذي يواجهه بلديهما ، تبدو أنها زيارة روسيا كلها إلى مصر كلها ، وكما تبدو من مخرجاتها وظرفها وبروتوكوليتها الفريده أنها باتجاه تفعيل سياسة روسيا بوتين باتجاه محاولة تغيير الموازين والمعادله الدولية القائمة بل وقلب الطاولة على أمريكا والشرق الأوسط الجديد من خلال عمل سياسي دولي واسع وواثق ومحسوب بدت بوادره في التحرك الروسي قبل الزيارة . فروسيا تواجه اليوم حربا اقتصادية مؤثرة ، أحالتها الى حالة سياسية مهينة . وما تقزيم الروبل بالتأثير على أسعار النفط الا مجرد مظهر شرس ومؤثر يدل على استخفاف أمريكا والغرب بروسيا أكثر من قدرتهم على التأثير عليها ، بل أن ضغوطات الغرب وحلفاء الزيت على اقتصادها تسوقها نحو المهانة والعزلة السياسية دوليا ، إنها حرب بين التأديب والتركيع تشنها أمريكا التي اقتربت من استنفاذ اوراق الضغط على روسيا حتى جعلتها في حالة تكون معها ، إما تكون أو لا تكون . وهي الطامحه منذ سنين الى اعلان نفسها قطبا ثان على الخارطة من جديد تحت ضغط هواجس استخدام نفس السلاح الاقتصادي ضدها ثانية لتكريس الحالة التي ألت اليها على يد رئيس روسي سابق ليس بطبيعة بوتين .
وبالمقابل تجد مصر نفسها في مواجهة هجمة إرهابية ابتدأت مع نظام السيسي وهي من نوع التجربة التي عانتها روسيا قبل سنين وانتصرت فيها ، لكنها هنا هجمة بأسلحة وأهداف أخرى تواجه مصر وتهدد بالاطاحة بأمنها واقتصادها وإنهاك وتفكيك جيشها على طريق شقيقاتها العربيات ولتواجه نفس الفوضى الخلاقة ونفس المصير ، ولا تجد في هذا دعما أو اهتماما أمريكيا أو غربيا ملموسا ناهيك عن أنها أصبحت عاجزة عن مسئولياتها التاريخية والقومية والوطنية التي تقزمت إلى أن أصبح همها مجرد إطعام مئة مليون فاه مفتوح ومواجهة الهجمات المدسوسة فيها بلا طموح أكثر من ذلك . . ووراء ذلك أسئلة كبيرة ليس الابتزاز والمخطط الأمريكي والصهيوني والفوضى الخلاقة بمعزل عنها ، ولا ندري إن أطلع مدير ال كي جي بي السابق والضيف الحالي مضيفه وزير الدفاع المصري السابق في هذه الزياره بأنه سيكون بموقف يسمع به ان الفترة اللازمة لاستئصال داعش من سيناء ستحتاج سنوات ثلاث بما يحمله ذلك من وحدة الاستهداف ؟؟. إنها مصر التاريخ التي أخضعت قبل الميلاد كل دول وشعوب بلاد الرافدين وبلاد الشام لا أراها لا تلتقط اللحظة لتخرج من حالة الدولة الدويله التي تهادن عدوها وجارها النووي لتحمي نفسها ، ولعلها التقطتها وتجاوببت معها فعلا من خلال طبيعة الهدية البروتوكولية التي قدمها السيسي كرد على طبيعة الهدية التي قدمها له بوتين، وما سنأتي اليه من مؤشرات
إني أتمنى كما أتوقع ، أن لا يكون الأمر بين روسيا ومصر هذه المرة مجرد تقاطع مصالح أو مجرد صداقة وتعاون وتبادل مصالح مرتبطة بالظرف السياسي الدولي ، على ما في ذلك من فائدة بكى العرب على اطلالها ، بل أن يكون في إطار منظور روسي استراتيجي عالمي تكون مصر جزءا منه . فحالة اتفاقيات الصداقة والتعاون وتبادل المصالح التي عشناها مع السوفييت أثناء الحقبة الثنائية القطبية تقف عند حد وحدود ، ولم تسعفنا عام 67 وانتهت بنا خذلانا .أما حالة العلاقة والتحالف الاستراتيجي هي ما تمكث في الارض وتسعف. وهي الحالة القائمة بين امريكا واسرئيل او امريكا والدول الأوروبية ، أو الاتحاد السوفييتي سابقا وكوبا
لقد لاقت هذه الزياره اهتماما في الصحافة الأمريكية والأجنبية عامة ، ومع أن تقييم كتابها تركز على أنها تكتيكية قامت على أسباب ظرفية أنتجت بدورها مجرد تقاطع مصالح بين البلدين أملتها السياسات الأمريكية تحت وطأة حزمة من المواقف والسياسات غير الودية إزاء مصر السيسي ، كالموقف الامريكي من الانقلاب على حكم الاخوان واستقبالهم والتحاور معهم ، وما تبع ذلك من تأخير شحنات الاسلحة وعدم الاسهام بجدية في مساعدة مصر بمواجهة الارهاب ، وما أعقب ذلك من وقف الحوار الاستراتيجي بين البلدين ورفض المطلب المصري في انشاء المنطقه التجارية الحرة بين البلدين . أقول ومع أن تقيييم تلك الصحف هذا يبدو منطقيا في إطار الفعل ورد الفعل فحسب ، إلا أن هناك مؤشرات أفرزتها الزيارة ترقى إلى ما هو أبعد من ذلك ، لتؤشر على أن ثمة بوادر على علاقات تحالفية استراتيجية ستقوم بين البلدين في إطار استقطاب دولي أوسع تسعى اليه روسيا وتكون مصر جزءا أساسيا فيه . أملتها وأعني هذه العلاقات استراتيجيات وطنية جديدة لكليهما لاستعادة مكانتيهما اللتين لم تحترمهما الامبراطورية الامريكية . وربما أن فتور العلاقات المصرية الخليجية والزيارة المرتقبة للملك سلمان الى مصر يشير إلى التقاط الولايات المتحدة للنوايا المصرية في استيعاب المسعى الروسي الجديد .
إن ولعل هذه المؤشرات التي أفرزتها الزيارة والدالة على بوادر علاقات استراتيجية بين البلدين ، لا تقف عند دلالات الهدية البروتوكوليه التقليدية التي قدمها بوتين لمضيفه وهي الكلاشنكوف اسطورة السلاح الروسي ورد السييسي في إقامة حفل العشاء الرسمي في مطعم برج العرب (برج القاهره سابقا ) الذي بناه عبد الناصر من دولارات دسها الأمريكان له في حقيببة جهلا بعبد الناصر ، لا في قصر الرئاسة ولا في مطعم فاخر . ولا تقف هذه المؤشرات أيضا عند مانشيست الأهرام ( بوتين بطل هذا الزمان ) ، بل ما تبع ذلك من اتفاق على تعاون عسكري استراتيجي وتوقيع صفقة سلاح هجومي و تفعيل وتحديث المصانع الحربية بتكنولوجيا روسية ،. ولعل الأهم والأكثر حساسية من هذه المؤشرات هو توقيع مذكرة تفاهم لبناء محطة كهرو ذرية بأربعة وحدات طاقتها عالية ، واستحداث قطاع ذري في مصر وتقديم القروض اللازمة لتمويله ، وهو الأمر الواعد الذي كان على مصر أن تكون سباقة له كجارة لعدو نووي . ولعل من أهم هذه المؤشرات أيضا هو إلغاء الدولار من العمليات التجارية بين البلدين واعتماد الروبل والجنيه ، وإنشاء منطقة تجارة حرة بين مصر والاتحاد الاقتصادي الأوراسي،ومنطقة صناعية روسية في منطقة قناة السويس . . وفي دلالة أخرى كان الجانب الروسي حريصا على بحث أوضاع الدول العربية المترديه والوضع السياسي الفلسطيني وضرورة اقامة الدولة الفلسطينية والقدس عاصمتها . وكذلك من حيث حديثهما عن تحالف جديد ضد الارهاب مواز للقائم .
وهنا يثار سؤا لان منطقيان مترابطان ، الأول هو لماذا شرعت روسيا بتعزيز علاقاتها مع دول منتقاة كالصين والهند وغيرهما على شكل تحالفات على مسائل استراتيجية ، والثاني ، لماذا تختار من بينها مصر حليفا استراتيجيا بمعنى الكلمة مثلا .
وهنا فإني لا اتفق مع من يعزو الخطوة الروسية في الشروع لتمتين علاقاتها مع الدول على أنه من باب فك عزلتها الدولية التي تفاقمت إثر الأزمة الأكرانية حسب رأي بعض الغربيين ، بل أن واقع الحال ، حين استحضاره ودراسته يشير الى أن روسيا بوتين تسعى من وراء ذلك إلى بناء ارضية وهيكلية تستعيد فيها النظام الدولي القائم على القطبية الثنائية الذي يحفظ كرامة روسيا ومصالحها العليا كما يحفط التوازن الدولي ويحقق الأمن الجماعي للشعوب وحقوق الدول الضعيفة .
أما لماذ تخصص مصر بالتحالف الاستراتيجي , فلأنها مؤهلة لأن تكون الأساس الفاعل والضاغط على الغرب وحليفتها الاستراتيجي اسرائيل في هذا التحالف ، ولكونها الوحيدة التي تحتاج إلى إغراءات توازي تمردها على السياسة الأمريكية . حيث أن مصر في حسابات الروس إن امتلكت الدعم والسند الاستراتيجي ، فإنها ستتمكن من تفعيل مفاتيح موقعها الجيو سياسي الذي تملكه ، لصالح روسيا ولغير صالح أمريكا . وهو الموقع الأخطر والأكثر حساسية وتأثيرا عسكريا واقتصاديا في العالم . ولأنها أي مصر ستكون مؤهلة حينها و قادرة على استقطاب الدول العربية المهيئة مع شعوبها من ناحيه وإضعاف الأخرى منها والأكثر أهمية استراتيجية لأمريكا والغرب من ناحية ثانية ، وتبقى المعضله الروسية هي في التوفيق بين المعسكر العربي والمعسكر الإيراني داخل هذا التحالف .