بداية، نقف مع ايران ضد أمريكا وضغوطاتها ومخططها. ونتجندُ في صفوفها ضد الاحتلال الصهيوني لفلسطين، ونصادقها في حالة لا هذا ولا ذاك. ولكنَّا لا نقف معها ولا مع غيرها ضد مصالحنا العليا ووجودنا وضد أوطاننا وعروبتها. وبوصلة الشعب العربي فلسطين دائما حتى التحرير
عندما احتَلت أمريكا العراق، إنما في سياق جَعْل الشرق الأوسط منطقة نفوذ لها على المقاس الصهيوني. وكان احتلالُ وسقوطُ العراق من متطلبات التغيير في المنطقة وإخضاع أنظمتها القديمة والجديدة كما هو الحال الجاري اليوم في سوريا. وبعد رحيل صدام رُبِطت الشوارب واللحى في عص الكلبه. وما كان لأمريكا هذا الاحتلال بمجرد الدعم اللوجستي العربي للدول المجاورة، فالإحتلال واستقراره ليقضي وطره لا يتحقق إلا بتعاون وطني (بمعنى أهلي) وببديل جاهز من الداخل.
. وهذا ما وفرته إيران لا حباً بأمريكا ولا تحالفاً معها ولكنه تقاطع في المصالح لم يرحمنا كعرب أو مسلمين، وفَتَك بالعراق وشعبه. فهذا البديل العراقي صُنِع في ايران وتلقفته أمريكا بعد أن ترعرع بحضنها على مدى سنين، وجلبته للحكم وتعاونت معه بترحيب إيراني.. ولا نقول بأن العراق لم يكن بحاجة لمعارضة ولكن ليس على هذه الشاكله، وتجربتنا اليوم مع المعارضة السورية مُرَّة ومريرة. وفي المحصلة حُكِم العراق برأسين، أمريكي وإيراني
التفاهم بين البلدين كان ضمنيا وتعبيريا وأقوى من الحِبر، لكنه بالتأكيد مرحلي ومفروض على الجانبين بحكم تزاوج الإحتلال الأمريكي ومصالحه القومية مع الجوار الإيراني المؤثر ومصالحه القومية. وبارتباط حكَّام العراق الجدد بأمريكا وإيران معاً، وبيضة القبان في مَيلهم لهذا أو ذاك هي مصالحهم الشخصيه. مُضافاً لذلك العامل السكاني الذي أعطى إيران ميزة شعبية مذهبية بريئة تم استخدامها لمصلحة الرأسين في تكريس الفرقة بين الشعب الواحد حتى أنجزت المهمة وتكرس الحكم الطائفي، وعادت الأغلبية المذهبية لنفسها في مواجهة مشاكلها كشعب وصَحَت على حكامها وما فعلوه بالعراق وشعبه بفعل فسادهم وارتباطاتهم واعتلائهم صهوة الطائفية التي لم تكن أكثر من سياسية بطعم الفساد والنهب وتقديم الخدمات التدميرية.
ولم يكن الوفاق الأمريكي الإيراني ليدوم، فالمصالح ستتطور وتتضارب، وتتغيرُ معها الأهداف. فليس هناك ما يربط أمريكا مع نظام اسلامي ينازعها في المنطقة. ولم يكن الملف النووي سببا حقيقياً أو وحيداً للخلاف بين بينهما، فعوامل التحرش والذرائع كثيره. ولو لم يكن هذا الملف موجوداً لَصُنِعَ غيره بغية كسر إرادة إيران وتحالفاتها الدولية مع دول منافسة لأمريكا ومنعها من الوقوف بوجه الأطماع الأمريكية والكيان الصهيوني ومخططه.
القدرات الإيرانية العسكرية وامتداداتها لا تسمح لأمريكا أو إسرائيل بشن حرب عسكرية على إيران، كما لهذه الحرب بُعد عالمي وضوابط داخلية. ولذلك شُنَّت عليها حرب إقتصادية متصاعدة ستؤثر في المحصة على إيران في العَظْم وقد تتسبب بحرب داخلية إن لم تَنته بطريقة ما. وهذا هو الخطر الذي لا تسمح به ايران. ولكن في حالة انسداد الأفق أمامها ستكون الحرب خيار الصفر عندها وستستخدمه. فهذا النظام لا يضع في حساباته الاستسلام ولا شيء يقدمه بالمجَّان، وسقف المناورة والمجاملة عنده محدود جداً. ولذلك فقد تَنْجَرُّ أمريكا لمعارك منضبطة السقف. وربما تكون الأحداث الأخيرة في هذا السياق ومبنية على الفعل وردة الفعل لجس النبض وبناء مواقف سياسية جديدة.
الهدف الأمريكي المرحلي الذي تضغط باتجاهه اسرائيل هو تصفية الوجود الايراني في سوريا. وفشلت بتحقيقه سياسيا وعسكريا. فحزب الله كامتداد ايراني يشكل تهديداً لإسرائيل ما حلمت به يوما. ويشكل أيضاً عقَبة أمام تسوية الأزمة السورية على المقاس المطلوب والضروري للمشروع الصهيوني في فلسطين والأردن في إقليم راكع. فإيران وحزب الله وسوريا حزمة واحدة الإستهداف. ومن هنا كان على أمريكا بعد الفشل أن تنتقل في مواجهتها لهذه الحُزمة من سوريا الى العراق. ولا يهم أمريكا أن تقايض خروج ايران من سوريا واخلائها كل المناطق الحدودية مقابل الخروج الأمريكي من العراق مرحلياً وتُبقي على العراق وديعة عند ايران فقط. فامريكا برجماتية السياسة وتؤمن بالكر والفر..
أمريكا أصبحت اليوم باتجاه نقل الصراع إلى العراق، وإن مبالغتها بحجم الرد على مقتل متعامل عمل مقصود ومُستحدث في سياستها إزاء الضربات الايرانية، ولا يستحق هذا الحجم ولا بد أن وراءه سبب استراتيجي، وهو بلا شك رد يخرق بحجمه قواعد الاشتباك التي تستثني العراق من المواجهة كمحل تفاهم بينهما. لكن استثمار هذا الرد كان من الطرفين والعبرة بحسن الإستثمار، فايران استفادت بتوجيه بوصلة الحراك العراقي المطلبي الأقرب للثورة والذي طال وجودها في العراق، وتمكنت من صنع حراك مدعوم في مواجهة الحراك الذي ركز على خروج ايران ولم يُرَكز على الخروج الأمريكي، ولكنها أي إيران ارتكبت بحق نفسها والعراق خطأ باستهداف سفارة أمريكا في بغداد بالذات وسآتي للتوضيح في السياق.
نعلم بأن الأهداف واستراتيجياتها تتغير في الميدان حسب مجريات الأحداث والنتائج. ونعلم بأن مرامي أمريكا أوسع بكثير من مرامي ايران وتتجاوز الإقليم. لكن العراق بالنسبة لإيران على رأس أولوياتها الإستراتيجية، فلو تحملت خسارة وجودها في أي مكان بالإقليم فلن تتحمل أن يكون العراق خارج سيطرتها أو نفوذها ولهذا أسباب تتجاوز السلامة أو الاستخدام. وهذا ما يجعلني أقول أنها في ضوء الهبة الشعبية العراقية هي من بدأت بالتحرش بالوجود الأمريكي بالعراق كرسالة تحذيرتلتها رسالة تذكير أعمق ولكن عُمق خطئها أكبر، وهو التوجه لسفارتها في بغداد دون حسابات. فهذه الفعلة تنزع حرمةَ المنطقة الخضراء الأمنية كأفدح وأكبر خطأ ترتكبه ايران بحق نفسها والعراق، وأكبر هدية تقدمها لأمريكا.
فالإستراتيجية الجديدة المتوقعة لأمريكا خطيرة جدا، وهي المباشرة في تقطيع أوصال الحزمة ( ايران وسوريا وحزب الله ) جغرافيا واخراج ايران من سوريا وقطع تواصلها وطرق إمدادها كحزمة، انطلاقأ من أرض العراق، بوسيلة البدء بمقدمات ميدانية عسكرية تنتهي بتفتيته لكيانات منها الدولة الشاهنشاهية الكردية الممتدة لسوريه. وهذا يبدأ بإنزال كارثة سياسية بالعراق كدولة، وتتمثل بإسقاط بغداد كعاصمة تُمثل وحدة العراق،مستفيدة من استهداف المنطقة الخضراء. وقد عبَّرت امريكا عن ذلك بنقل سفارتها الى أربيل، وسيكون هذا إن تم بالتنسيق مع كل حلفائها وعلى رأسهم بريطانيا وفرنسا والسعودية وتابعيها. وسيترافق هذا مع حشد القوات الأمريكية والحلفاء..
لهذه النقطة لسنا أمام تغيير في أهداف إيران الإستراتيجية على الساحة العراقية، إلا أن الإستراتيجية ألأمريكية هي التي تغيرت أو ستتغير في العراق وهذا هو الذي كان وراء المبالغة بحجم الرد الكبير على مقتل المتعامل بهدف افتعال أزمة مع ايران على الأرض العراقية وفك الشراكة والتفاهم معها في العراق.
فنحن بمحصلة التوقعات أمام استحقاقات كردية وروسية وإيرانية. فبالنسبة للأكراد يقتضي الواجب الوطني والتاريخي منهم رفض تواجد السفارات في إقليمهم،والتجاوب مستبعد في السياسة البرزانية. أما الإستحقاق الروسي فهو بذل الجهد الدبلوماسي لأقصى سقف ممكن وصولاً للتهديد، لمنع أمريكا من تنفيذ مخططها بالعراق سيما وأن روسيا ستكون الخاسر الأكبر بعد العراق فهي المستهدفة أمريكيا في النطاق الاستراتيجي العالمي.
أما الاستحقاق الإيراني سيكون في حالة فشل روسيا بمساعيها، حيث ستضطر ايران لمواجهة أمريكا بإشعال الحرب.وإذا وقفت روسيا لجانبها في حربها نصبح أمام حرب ثالثه. وفي هذه الحالة فإن الشعوب العربية التي لا تملك شيئا لتخسره والقضية الفلسطينية التي يُصِر العالم على تجاهلها قد تكون مستفيدة. السؤال الكبير هل تسمح أمريكا وروسيا بذلك ؟؟؟؟؟. وإن لم تسمحا فستكون ايران وحدها في الميدان، فهل تسمح روسيا بالنتائج المتوقعة، أعتقد لا،ولذلك ستواجه ايران ضغوطا روسية كبيرة لضبط النفس. وحزري عندها أن إيران ستأخذ وتعطي.