من مصلحة أمريكا أن تكون إيران موجودة في مكانها وقوية، ولكن على أن تكون صديقة لها ولإسرائيل أو مسالمة لهما ولا تقف بوجه مصالحهما في المنطقة وهو شرط تقبله دولة غير إيران. ولكن يحتار العقل أحياناً في السياسة الإيرانية، فهي تستطيع بالسياسة أن تحافظ على مصالحها ومواقفها المبدئية معا. إنها تضع هدفاً ما ولا تتركه أو تقايضه عندما تراه يفشل أو يَجر تداعيات سلبية وخسارة عليها تراها قادمة. إن كنتُ مصيبا فهذه ليست سياسة من العقيدة التي تقول أن الحرب كر وفر ولكنها ربما سياسة لغير سياسيين في إيران الشهيرة تاريخياً بالبراعة السياسية.
الصِدام الإيراني مع أمريكا في العراق وإخراجها منه لم يكن مخططاً إيرانياً ليُنَفذ في هذا الوقت لكن ظرف الهبة الشعبية في العراق ودعم أمريكا لتلك الهبة والحصار الاقتصادي وأحداث الميدان جعلها تناور بهذا الهدف. وإخراج أمريكا من العراق لا يكون إلا بحرب حرب العصابات الشعبية ( المقاومة ) وهذا يعنى أن من سيقوم بالمهمة أذرع إيرانية ممثلة بميليشيات عراقية تابعة لها مما يجعل ايران مستهدَفة من أمريكا عسكريا لو لم تكن مُستهدَفة. بينما الهجمة على العراق وتفتيته واخضاعها وقطع طرق التواصل والإمداد بين محور المقاومة وإخراج ايران من سورية هو هدف أمريكي صُمِّم من قَبل الأحداث الأخيرة. وهذا يعني أن هناك قراراً سياسياً أمريكيا بمواجهة إيران. وفي الميزان وحالة قرار الحرب فإن أمريكا تستوعب الضربات الإيرانية مهما كثرت، لكن إيران قد لا تستوعب الضربات الأمريكية التي قد تنال من صمودها ونمائها وتَحُول دون امتلاكها سلاح الردع الكافي كهدف استراتيجي لها.
ومع أن الفرصة قد هُيئت لأمريكا من ردة الفعل الإيرانية التهديدية على أوسع نطاق على اغتيال سليماني، إلا أنها أي أمريكا لن تبدأ الهجوم دون ذريعة أو تحرش إيراني، وربما تختلق أو تصنع هذا التحرش. فنحن نتكلم الآن عن مواجهات قادمة محتملة سببها المباشر هو مصرع شخص، وهذا يُذكرنا بمصرع شخص كان سببا مباشراً للحرب العالمية الأولى ( ولي عهد النمسا ). إلا أن التحالفات والاسباب الموضوعية حينها كانت متوفرة وقامت سريعاً، أما في الحالة الإيرانية التي ننتظرها فتحالف روسيا أو الصين مع ايران في حرب مع أمريكا عليه ضوابط تتجاوز عدم مساواته بخسائرهم لمصالحهم في المنطقة أو لخسارتهم لحليف ما إلى خسائر تدميرية عليهم وعلى العالم واقتصاد العالم ومركز الطاقة، لأن مشاركتهم لايران في هذه الحرب بمثابة تحويلها لحرب عالمية وهذا بعيد ومستبعد.
لذلك ستستمر روسيا ومعها الصين بتكثيف الوساطة مع أمريكا لمنع اندلاع الحرب. وإذا نجحوا فالإحتمال الأول يكون على أساس السماح لإيران برد محدود متفق عليه وعلى عدم الرد الأمريكي المؤثر. وإذا لم يتم احتواء الموقف سياسيا وهو الأرجح، ندخل في الاحتمال الثاني وتكون إيران فيه أمام خيار من اثنين وهما، إما تمضي للميدان وحدها برد لا تُمرره أمريكا، أو تَحسِبها جيدا وتقدر الموقف والنتائج السلبية عليها. علما بأنها أصدرت تصريحا بأنها سترد في المكان والزمان المناسبين، بما يعني بتقديرها للموقف وإمكانية القبول بالتراجع لحل وسط. وقد تأخذ ثمناً من دول المنطقة
أما إن ركبت رأسها ومضت للمواجهة فإنها ستحاول أن يكون ردها مجرد رد عسكري لا يطال المصالح الأمريكية بالعمق وستربح ماء وجهها فيه، إلا أن حَجم الرد الأمريكي وعمقه والنتائج عموما سيكون مرتبطا بنوايا أمريكا، فقد تواصل الحرب في ضوء ما أسلفت حتى تحصل على ما تريد غير آبهة بخسائرها، أو تواصِلها لحد مقبول لها توقِف عنده هجومها بموجب قرار لمجلس الأمن بوقف القتال يتركها في موقع متقدم عسكريا في العراق كنوع من الإحتلال يسمح لها بتنفيذ مخططها.
وهنا فإن تحديد امريكا لاثنين وخمسين هدفا لضربه يجب أن لا نمر عنه، فإن هذا التحديد المصرح به بما يخالف لوازم الحرب الجادة يأتي إمّا في سياق التهديد لعدم الرغبة بالدخول في قتال، وإما في حالة أن يكون المشروع النووي الايراني هو المستهدف بشكل رئيسي وأن تسمية هذا الكم الباقي هو لتشتيت القوات الايرانية عنه ما أمكن وهذا لن ينطلي على ايران بالطبع. وما تسميتُهم للمراكز الثقافية إلا للتأثير في النفوس عقديا وقوميا، ناهيك عن أن الإرث الثقافي مفهوم يُشكل عقدة لأمريكا تكرهها لفقدانها له، وهكذا اسرائيل الذي تبحث عنه ولا تجده.
النقطة الحرجة لأمريكا والمهمة لنا كعرب هو استهداف إيران أو حزب الله لإسرائيل في هذا المواجهة. وهذا من غير المرجح حدوثه، فايران لن تُقحِم إسرائيل كي لا تُدخلها مباشرة في الحرب وحتى لا تكون الهجمة الأمريكية قوية جدا وتشل القدرات العسكرية الايرانية. فإيران تعلم بأن اسرائيل خط أمريكي أحمر. وهناك رسالة لإسرائيل بهذا في خطاب نصر الله الأخير ورسالة بالخطاب الإيراني الذي يحدد الرد بالعسكريين الأمريكان. إلا أن أيران قد تلجأ لضرب اسرائيل بالوكالة أو الأصالة إذا ما وصلت لحالة لا يتوقف فيها الهجوم الأمريكي المفترض، وهناك احتمال ضئيل جدا وشبه معدوم بأن تقوم اسرائيل بماهجمة حزب الله بمساعدة أمريكية اعتمادا على تكنولوجيا تُقلل من الخسائر الاسرائيلية.
وفي الختام أقول بأن ايران ليست مثالية بسلوكها وربما استراتيجيتها إزاء الدول العربية. وأنها تناهض الأنظمة العربية لأن هذه الأنظمة تناهضها باصطفافها مع المعسكر الصهيوأمريكي ضدها. إلا أن إيران هذه هي الدولة الوحيدة المتبقية في هذا العالم المادي كضابط على اسرائيل يمنعها من الفتك المباشر بالدول العربية والوحيدة التي تعيق المشروع الصهيوني في المنطقة، والوحيدة التي تجرأ على دعم المقاومة الفلسطينية وتُوقِفها على قدميها. وعليه فإننا معنيين كشعوب عربية بدعمها وبسلامتها ليس لهذا فقط بل لكونها دولة إسلامية نعتز بصمودها ورخائها ولها علينا واجب مقدس، وإن كل نظام عربي يصطف مع أمريكا ضدها هو نظام عميل وخائن ولا يمثل موقف شعبه.