إذا حَجَّمنا الصراع العربي الصهيوني بالمشروع الصهيوني ، وحجمنا المشروع الصهيوني بوعد بلفور فمحله فلسطين والأردن. ويكون الهدف النهائي للعدو الصهيوني هو احتلاله لمساحة الوعد ، بينما هدف العرب هو انقاذ تلك المساحة أو تحريرها. هنا يصبح كل ما تحقق أو يتحقق لطرفي الصراع قبل الوصول للهدف النهائي هو مجرد مفاصل ومنصات انطلاق جديدة باتجاه تحقيق الهدف ، أو منصات تراجع عن تحقيقه ، ولا يمكن لأي من هذه المفاصل أن تُشكل بحد ذاتها نهاية للصراع طالما الأهداف قائمة. صراعنا مع الصهيونية أسميناه القضية الفلسطينية ، وأسمته الصهيونية بالقضية اليهودية.
هذه القضية وُلِدت مُدَولة ووضعت على جدول عمل عصبة الأمم ثم على جدول أعمال هيئة الأمم المتحدة وكلاهما بالنسبة لقضيتنا مسمى لشيء واحد، فعندما نتكلم بهذا الإطار فنحن نتكلم عن مسار سياسي اتخذته القضية عوضاُ عن مسارها الصحيح كقضية احتلال، وهو مسار المقاومه.
مرت القضية بهذا المسار السياسي في ثلاثة مفاصل رئيسية ترتبت عليها نتائج مفصلية بإيجابيتها للطرف الصهيوني، ومنعرجاً بسلبيتها للطرف العربي. هي قرار التقسيم والقرار 242 وصفقة القرن ( إن نُفِّذت). واعتباري لها مفصلا مبني على وجود مؤشرات استعداد اردني للتعاون بتنفيذها مع وجود تواطؤ أو تخاذل فلسطيني. هذه المفاصل الثلاثة صَنعت منصات انطلاق متكاملة نحو الهدف الصهيوني النهائي (وعد بلفور). ومن التضليل السياسي والخداع وصف أو استخدام هذه المفاصل كمحطات يبنى عليها تسويات سياسية كحل وسط ما بين الهدفين compromise طالما أن أياً من الطرفين يشعر بأنه قادر على تحقيق هدفه النهائي ، وهذا متوفر عند اسرائيل. أو كان أي منهما غير مقتنع بحل وسط ما بين الهدفين ليحل محل هدفه ، وهذا متوفر عند الطرفين ،وخاصة الطرف الفلسطيني والعربي بشكل عام ً
.
هذه المفاصل الثلاثة التي تمخضت عن هزائم ، يوجد لكل منها مستحقات يدفعها المهزوم للمنتصر من خلال مسمى تسويات سلميه ،وهذه المستحقات هي التي تفتح الطريق لمفصل لاحق ،وما يقدم في أوراق هذه التسويات للمهزوم هو بمثابة عظمة يشتمها ولا ينال منها شيئا. وهدف تقديمها له لا يخرج عن شرعنتة لمستحقات المنتصر أو مبرر للإفتراس عند الرفض ، أو اختصارا في هندسة المرحلة. وبإمكاننا أن نستبدل اسم صفقة القرن ب ” المفصل الثالث ” الأخطر والعابر للأردن نحو الهدف النهائي (وعد بلفور)..
فالمفصل الأول ، هو قرار التقسيم. حَقَّق الاعتراف الدولي الرسمي بدولة لليهود على جزء من فلسطين وانضمامها للأمم المتحدة. صانعاً منصة انطلاق للعدو باتجاه الهدف. وإن كان عدم اعتراف العرب بالتقسيم وبالدولة لم يُؤدِّ عملياً لإعاقة المشروع والمنصة إلا أنه بقي ضروريا ومطلوبا للعدو.
المفصل الثاني هو القرار 242. اعترفت بموجبه الأنظمة العربية بدولة اسرائيل وباحتلالها لعام 48 مقابل التفاوض حول احتلالات ال67 على أساس مبدأ الأرض مقابل السلام. والمحصلة أنهت مصر حالة الحرب مع اسرائيل وتحولت لحليف لها ، ولدولة متراجعة مقابل سيناء السهل اعادة احتلالها. ورفضت اسرائيل إعادة الجولان ، ورفضت إطلاقا وبأي وجه إعاد الضفة الغربية. أي أنها أخذت كل ما لها في القرار وأكثر ولم تعط للعرب ما لهم. وأصبحت المساحة المحتلة ( الضفة الغربية ) منصة الانطلاق الثانية نحو الشرق. وحيث أن تفعيل هذه المنصه معقد جدا كونها تستهدف ضم الأرض وتصفية القضية وتهويد الدولة، وأن هذا يحتاج للتخلص من المكونين السكاني والسياسي للقضية ، فإن الأمر تطلب جعل هذا المفصل بمنصته ً متداخلاً مع المفصل الثالث المسمى صفقة القرن لتأمين المطلوب.
.
المفصل الثالث ، أو صفقة القرن ، هو المفصل المتداخل والمتمم والمُفَعِّل لمنصة المفصل الثاني والعابر للأردن ، كونه المكان المؤهل لاستيعاب المكونين السكاني والسياسي للقضية كضرورة لبناء وتوفير متطلبات نجاح الضم المقنن للأرضي المحتلة عام 67 وتهويد كل فلسطين وتصفية القضية الفلسطينية. وكونه المكان المسمى والمدعى به ومُستَهدَفاً بالوعد. فهذه الصفقة مرتبطة ارتباطاً وثيقا ومباشراً بالأردن وشراكته فيها
ولذلك فإن تنفيذ صفقة القرن سيولد بالضرورة ما سيسمى ب ( القضية الأردنية ) على خطى القضية الفلسطينية. وسيتشكل المفصل الرابع لوعد بلفور في الأردن ، ويرى الأردنيون بأن القضية الفلسطينية ما كانت لحظة واحدة إلا قضيتهم الوطنية وليست مجرد قومية. وما كان لترمب أن يعلن الصفقة على الملأ قبل أن يضمن تعاون النظام الأردني ،ولا هو ولا اسرائيل قادرين على تنفيذها بدون رضوخ وتعاون النظام باستيعاب كل حمولة ومتطلبات ضم الضفة الغربية وتصفية القضية الفلسطينية. فالأردني معني بصفقة القرن تماما كالفلسطيني وبنفس الدرجة.
والمهم هنا بأن استهداف الأردن بالصفقة يجب أن لا يفهمه النظام ولا الأردنيون ولا الفلسطينيون بأنه استهداف بالوطن البديل فهذه لعبة خادعة وخطيرة. فكرة الوطن البديل ما كانت يوما إلا مرحلة ماتت بتراجع وانحسار المقاومة الفلسطينية وانقلاب الوضع العربي على القضية. الأردن مستهدف بالصفقة مباشرة بكيانه السياسي والوطني وكشعب ووطن بدخول وعد بلفور إليه مباشرة ، وبعنوان لا سيادة ولا قرار فيه لشعب أو لحاكم عربي إلا ديكور..ولن يكون الأردن في المحصلة مُسْتَقَرَّاً ً لفلسطيني او أردني. والسلطة الفلسطينية تبحث عن بقائها وعن دور جديد في مرحلة انتقالية جديدة.
فالصفقة حلقة متقدمة من مراحل تنفيذ وعد بلفور، والأردن اليوم محلها. ولا يجوز إنكار المؤشرات جزافاً بدون تفنيد ، ومن يَفعل ذلك متعاون..فالملك إن كان مصمماً فعلاً على رفض الصفقة فعليه أن يفسر لنا أدواته في مواجهتها ، وإن كان عاجزا عن مواجهتها أو راضيا بها عليه أن يخرج للشعب وللعالم بأسبابه وتبريره ، ذلك أننا أمام أمر جلل يستحق أن يكون شأناً عاما. وتنفيذ الصفقة ليس مرتبطاً برفض او قبول النظام العربي فهو مجرد عوامل مساعده ، بل مرتبط بتعاون الأردن ، وفشلها مرتبط برفض الملك الحقيقي. ودلالة هذا الرفض الحقيقي ليس بأقل من لجوئه للشعب وللتغيير داخلياً وخارجيا بأسقاط نهج التبعية والاستسلام والفساد ، وعفا الله عما مضى أمام محنة وطن.. ولكن من المنطق القول بأن مسئولية الشعب ليست بأقل من مسئوليته. ألا بئست جعجعة المواطن بلا عمل ، وخسئ منتقدوها بلا عمل ، فتلك وقاحة في النفاق.