تركيا وإيران.. والرهان الصهيو- أمريكي

ينشط نشطاؤنا بحرارة لدى سماعهم لشأن يخص إيران أو تركيا، ولا نرى نفس هذا الحماس ولا شدة التدخل وحِدَّة التأثر لدى سماعهم حدثا يخص قضيتنا المركزية. وهم لا يرون عيباً أو ذنباً للدولة التي يصطفون معها ويرون شراً في كل فعل او قول للأخرى، ويعتبرون الإطراء بإحداها ذماً للأخرى. وتصبح قضيتنا هي تركيا وإيران. ومع هذه الحسبة تُصبح كلٌ من الدولتين عدوة لنا وصديقة. قوام هذا السلوك هو الأيدولوجية السياسية والدينية مع رفض الرأي الأخر والمذهب الأخر، وغياب الفكرة الأعمق الموضحة في الفقرة السابعة. إن حرية التعبير عن الرأي حق. ولكن من المفترض أن نقدم أنفسنا للصديق والعدو على أساس مركزية قضيتنا وخدمتها، وأن لا يكون من نحتسبهم أعداءً أو معادين محلاً لمعركة لنا على حساب مواجهتنا لتناقضنا الأساسي. بينما محصلة سلوكنا مع الدولتين هي عكس ذلك من ناحية، وتعطي نوعاً من الشرعنة لهما للتدخل بأقطارنا من ناحية أخرى.
توطئة للحديث، أقول لماذا على العرب أن يُخرِجوا مسألة الضابط الديني والالتزام بمُثله عن كل نظام سياسي أو حاكم لدولة ولو كان سلطاناً على المسلمين في دولة خلافة أو ناطقاً باسم المهدي المنتظر. التاريخ يقول لنا بأن الصراع بين الدين والسياسة في الدول نشأ مع نشأتها. وأن لا تزاوج بينهما نجح ولا التحالف أو الشراكة. ولا ارتداء السلطة الزمنية للباس السلطة الدينية صمد أو نجح بالمحصلة. ولم يعد الحاكم الديني موجوداً لا في الغرب ولا بالشرق حتى لو لبس العمامة. فالدين مُثل والسياسة طموحات وأطماع. والتاريخ سرَد لنا بأن المتدين الصادق والمؤمن بالمثل الدينية وقدرته على تطبيقها لتحقيق ما يصبو اليه المواطن او الدولة إذا ما وصل سدة الحكم يعود غير قادر ولا مصر على التمسك بها ولا تطبيقها، فتبقى عنواناً في صندوق يُخرجها منه للاستخدام السياسي ويصبح حاكماً قومياً بأدوات سياسية. فطابع دول العصر كلها اليوم قومية وترفع شعار الأمن القومي بمستلزماته، وربما أسهم ذلك بإفشال العولمة الأمريكية.ونحن العرب وحدنا يُطلب منَا أن نتخلى عن قوميتنا ويقودون الحملة عليها رغم انها القومية الوحيدة المنضبطة بإنسانية العقيدة الإسلامية، وأننا الأكثر حاجة للتمسك بها كأصحاب قضية احتلال مشتركة تفتك بنا جميعنا.
إيران وتركيا كلتاهما لم تحترما لحم أخيهما وهو ميت استثماراً أو استغلالاً سياسياً لواقع الحال في المنطقة، إنهما ليستا عدوتين لنا ولا لبعضهما ولا يجب أن نضعهما عنوة بهذه الخانة، ولا بخانة وكلاء لنا لتحرير فلسطين. فعلينا أن ندرك بأن ما تقومان به في وطننا شيئا طبيعيا، لا يحكمه العامل الديني أو المذهبي ولا الأخلاقي، ولا كرهاً في صدورهم لنا. ولو كانت بمكانيهما الجغرافي دولتان غيرهما لفعلتا بوطننا الشئ ذاته مع اختلاف الذرائع. ذلك أننا أمة مرتمية والوطن حاله من حالها، وليس في أقطارنا حكام وطنيون أحرار يعتبرونهم، ولا جيوش يخافون منها ولا شعوب يستحوا منها، ولا السياسة أخلاق، وكل سياسات حكام الدول هي هكذا بحكم دساتيرها وأولوية مصالحها. ولا يمكن أن نلوم سوى أنفسنا.
أسوداً بشراً كنّا واليوم نعاج نثغوا لنأكل بذل نستمرئه. وفينا كشعب من يطالب بالرضوخ حتى لوكان الوطن والكرامة الانسانية مقابل هذا العيش. إنها “الحالة المستقره ” ينتمي فيها الانسان لمعدته ولحياة الحظيرة ولقانونها، متخلياً طوعاً عن انسانيته ومواطنيته، ويساند من يوفر له هذه الحياة ويحميها، ويَقبل على نفسه توريث حالته للأجيال. ولو كانت نسبة الوعي عند شعبنا راجحة لما كان عميل وكيل حاكماً علينا يحكمنا ويُعمِّق جهلنا، ولما كان طاغية يحرقنا ويحرق الوطن ويُسلم قراره مقابل كرسيه، ولوَجَد عباس الذي لم تدان خيانته وخطورتها خيانة أي حاكم عربي، من يزيحه عن الطريق. ولما اعتمدنا على غيرنا دون أنفسنا، ولخلعنا نجوم أعلامنا ووضعنا مكانها خارطة فلسطين حتى تتحرر.
لا نقدس التراب ولا نعبده، لكنا نقدسه كوطن فيه وحده نعيش بحرية وكرامة انسانية وهوية، يأوينا ويطعمنا بعزة. وفيه وحده نحقق ذاتنا في إبداعنا وعقيدتنا ونهضتنا ومنه نؤدي رساتنا للعالم ويتعامل معنا خلق الله بتقبل واحترام لا بازدراء. تقسيمه تقسيماً للجسد الواحد والتنازل عن شبر منه تنازل عن الكرامة الوطنية ونهاية لفكرة الوطن والأمة. أليست الحيوانات في الغابات لها أوطاناً بحدود تحارب وتموت دفاعاً عنها، أم أن هناك غريزة عبثية ؟؟؟. لقد اختاروا حكامنا من الأكثر جهلا ً وأقل انتماءً واختاروا استهداف وعي شعوبنا كمعركة أساسية في حربهم علينا بمساعدة هؤلاء الحكام. وتركنا فلسطين…، وقضيتها فارقة التاريخ وليس العصر. وانقسم شعبنا، قسم همه هم النعاج والوطن عنده حظيرة، وأَخرَ همه البحث عن غسان ومنذر ناسياً أن من لا يحترم تراب وطنه وينتمي إليه هو مغفل إن توقع احترام الأخرين له ولوطنه مهما دار واستدار.
عودة لإيران وتركيا، وربطاً بالفقرتين الثانية والثالثة، فعلينا أن ندرك بأن موقفنا وسلوكنا الشعبي إزاء الدولتين متماهي مع سلوك أنظمتنا الفاسدة. والواقع أنهما دولتان مسالمتان لبعضهما، ومنسقتان في مواقع التدخل المتاح بأقطار وطننا حتى لو اختلفت أراءهما في بعضها. فالدول الأجنبية المتدخلة لم تأت لتتصادم مع بعضها بل لتأخذ نصيبها من أقطار أصبحت غنيمةَ مرض العجز والخيانة لا غنيمة حرب والتنسيق بينها ضرورة، غنيمة مشاعاً تتقطع أوصالها وتتدمر تدميرأ أربك مخططات الغرب الإستعمارية، وليست ايران وتركيا استثناءً.
أما الأهم، فإن حالة الانسجام الموجودة لدى الشعب العربي إزاء المشروع الصهيوني والصهيو أمريكي، لا يمكن أن يقابلها حالة انقسام إزاء تركيا وايران. هاتان الدولتان لو عرفنا الواقع لما فرّطنا كشعب عربي بواحدة منهما. إنهما الرهان الغربي الصهيوني التقليدي في حربهم على الوطن العربي والشعب العربي ولحماية المشروع الصهيوني. فإن استوعبوا هاتان الدولتان المسلمتان صاحبتا الماضي الإمبراطوري فستكونان سيفاً علينا وعلى قضايانا وبغلتين للمشروع الصهيوني، وإن فشلوا في استيعابهما فستكونان الرصيد الأعظم لنا ولقضيتنا ولمواجهة المشروع الصهيوني، وقبل ذلك لمجد الايرانيين والأتراك. فنموذج أتاتورك والشاه مطلوبان للصهيونية والغرب، ولن يتركوا هذا الهدف حتى ييأسوا. وأمام الدولتين إما الخضوع والذلة أو الصمود والمجد. ولديهما الإمكانيات كلها لخيار الصمود والكرامة الوطنية ونحن بانتظار أردوغان ليخطو خطوته. والظرف يفرض علينا كشعب عربي بوجود حكام مزيفين باعة اوطان أن نكون نحن من يعبر للدولتين عن وطننا ومصالحه، ونحن من نوصل رسائل للدولتين بأن تحالفنا طبيعياً تفرضه تحديات الغرب والصهيونية اومشروعها، وبخطورة استغلال ظرفنا والنيل من أراضينا وسيادة اقطارنا على مستقبل علاقاتنا ومصالحنا المشتركة.
كلمتان في تركيا وإيران بعيداً عن مسألة فيها وجهة نظر لأي من الدولتين. في تركيا أقول، أن تترك فكرة الخلافة فأدواتها اندثرت ومركونة بالمتاحف، والفارق الظرفي والتكنولوجي والعسكري فلكي ولن تستطيع ابتلاع دولة أوروبية واحدة ولا إسلامية، فالعرب وحدهم سيكونوا المستهدفين بالفكرة سواءً كانت استراتيجية أو تكتيكية. ونأمل أن تمضي في تعزيز انجازها الداخلي العظيم بالتخلص من جذور عسكر الدونمة الصهاينة وثقافتهم التي أشاعوها في تركيا، وبنهضتها الاقتصادية المدهشة، بموازاة سعيها لوقف الاعتراف والتعاون والتطبيع مع المحتل الصهيوني لفلسطين والأقصى. فهذه هي روح الخلافة ورضا الله والحد الفاصل بين الشعب العربي وتركيا. لا إسلام ولا ماضي الخلافة يتفق مع سلوك تركيا مع اسرائيل واستمراره برجل مسلم قائد كأردوغان، الذي عليه أيضاً أن يدرك بأن سوريا بأشبارها هي لشعبها العربي السوري تراباً عربياً مقدسا ولا وجهة نظر في هذا الموضوع.
وفي إيران أقول. احتل الأمريكي العراق جالباً معه عملاء مزدوجين له ولإيران وتم تسليمهم الحكم بالوكالة لاستكمال متطلبات التدمير المادي والسكاني للعراق. ومن حينه يُحكم هذا القطر العربي الأعرق برأسين، امريكا وايران والتفاهم كان قائماً بينهما على الساحة العراقية وحدها لغاية قبيل اغتيال سليماني. ومن الخداع أن يقول أحدهما بأنه قادر على إخراج الأخر من العراق، فهذه مهمة شعبها. ولا جدال أو نقاش بأن الوجود الأمريكي في العراق أو في اي قطر عربي هو وجود اسرائيلي صهيوني. لكن صراع ايران ولبه هو مع أمريكا. ويكفينا في هذا الظرف الدولي منها موقفها الشجاع من الإحتلال والقضية الفلسطينية وما تقدمه دون غيرها من دعم للمقاومة المحاصرة، إلا أن العراق يدمر اليوم، وطناً ومقدرة وشعباً. ويُعزل عن تاريخه وعروبته. لا أسأل عن دور أمريكا في هذا فهي عدوة وهذه وظيفتها. إنما نسأل عن القيادة الاسلامية الايرانية ومن المستحيل إنكار دورها المركزي. فهي الأكثر تغلغلا وسطوة واستباحة للشأن العرقي الداخلي. نأمل من ايران أن تنظر لصالح مستقبل علاقات الشعبين الشقيقين العربي والإيراني، فالأنظمة زائلة والشعوب باقية، وأن تحافظ على العراق وتتعامل معه كشريك عربي جار حر لا كمستعمرة،
وفي الختام، نحن العرب مقبلون على مفصل عالمي من المرجح أن يكون باتجاه نظام متعدد القطبية. وإن حدث فسيُحدث توازنا دولياً أكبر، ومجالاً أوسع لحماية الشعوب وقضاياها. أنظمتنا بغالبيتها العظمى ما زالت تراهن على أمريكا و”اسرائيل”، ولا ورقة بيدها إلا المقايضة بفلسطين والحقوق الفلسطينية وتدمير اقطارنا. ولولا فلسطين لما أصبح واحد منهم حاكما، وطبقاً لثقافتهم ووعيهم لكان بعضهم من أصحاب السوابق. وأكبر رَدة فعل لهذه الأنظمة على صفقة التصفية والضم هي عبارة (نرفض الضم) يُلقَنون بها. لا خيار للشعب العربي الفلسطيني إلا المقاومة والإنتفاضة التي تجرف معها عباس وسلطته، وعلى شعوبنا العربية أن تعلم وبالذات الأردنيين والفلسطينيين أن الموضوع يبدو محسوماً ومنتهياً عند أنظمتهم، وليس أمامهم إن لم يكونوا سعداء أقل من دعم المقاومة بكل الوسائل والخروج للشارع. ولا مجال للتذرع بالخوف ما دام حكامنا يقولون بأنهم رافضون.