في خمسينيات وستينيات القرن الماضي كانت شعوب الاقطار العربية موحدة في مشاعرها القومية والوطنية والتحررية ومعبأة سياسياً ولا قضية لها سوى فلسطين. وكانت الأنظمة العربية الوطنية هي صاحبة الصوت الأعلى والتأثير. بينما الرجعية كانت خانعة وفي بيات تتعاون مع العدو بالسر. ولم يكن وجودٌ لمصطلح الديمقراطية لدى الأنظمة العربية الوطنية أو لدى شعوبنا ، فقد كان شعار تحرير فلسطين أولوية تنسف كل الأولويات. القصائد والنشيد والأغاني وأحاديث الصالونات على مستوى الوطن العربي كلها بعنوان فلسطين، والتربية الوطنية في المدارس أساسية وموضوعها فلسطين. فلسطين هي من أحيت القومية العربية بعد موات دام قرون وفي خذلانها سيعود الموات للقومية وعربها. وما عبد الناصر إلا الرمز الرسمي القومي الذي التفت حوله الشعوب العربية لتصبح مصر الدولة الأعظم في افريقيا وزعيمة لبلدان العالم الثالث ، فتركت مصر القومية لتترك نفسها قبل القضية.
وفي ذات الخمسينيات والستينيات كانت أنظمتنا الوطنية وشعوبنا تهاجم النظامين الإيراني والتركي إعلامياً واللذَين كانا خاضعين لبيت الطاعة الصهيو أمريكي. ولا يقويان على الرد. وكنا نطالبهما باعادة الاسكندرون والأحواز. وحتى المستوطنون الإسرائيليون كانوا ينامون بالملاجئ حين يخطب عبد الناصر. إذ لم تكن اسرائيل بوضعها اليوم. والغالبية العظمى من دول العالم كانت مع الحق الفلسطيني واستحصل العرب على قرارات هامة في الأمم المتحدة منها مساواة الصهيونية بالعنصرية. وكان الشعب الفلسطيني ومعه العربي كله منساقاً لقدرة الأنظمة العربية على تحرير فلسطين بجيوشها من خلال معركة واحدة. ولم تكن فكرة المقاومة مستحوذة على عقولهم بوجود جيوش يهدر بها العرب. مع أن المقاومة الفلسطينية سطّرت إبان الغزو الصهيوني والاستعمار البريطاني أمثلة لبطولات عز نظيرها وفاعلة أكثر بكثير من الجيوش العربية التي ثبت عام 1948 قصورها عددا وعدة وسلامة وطنية.
بعد حرب عام 67 وقبول العرب بما فيهم مصر بقرار 242 سقطت الأنظمة العربية الوطنية وانتهى عهد من الزيف والوهم والخطأ الإستراتيجي. وتنمرت تركيا الدونمة وايران الشاه على العرب والحقوق العربية في خنوع عربي. ولم تكن تتورع الدولتان عن استخدام القوة أو التهديد بها ضد الأقطار العربية. وأصبحت الأنظمة العربية الرجعية هي صاحبة اليد العليا. وتبين للمواطن العادي بأنها لم تكن رجعية بل جزءاً من النظام الصهيو- غربي. وتماهت أغلبية الانظمة الوطنية معها ثم أصبحت ذيلا لها في الخيانة والتواطؤ بما فيه مصر تحت إمرة نواطير المحميات. وانعزل ما تبقى منها عن الهم العربي وفلسطين. أما شعوبنا فأصبحت يتيمة الأبوين سياسياً في داخل اقطارها وفي محيطها العربي ولم يتبق أي نظام عربي يصلح لأن تنتمي اليه كمُنقذ. في حين أن المقاومة الفلسطينة التي انطلق زخمها بعد حرب ال67 وفرضت القضية الفلسطينية على العالم وأرضخت الأنظمة الرجعية في الجزيرة والخليج لبسطار الفدائي الفلسطيني انتكست ثم انتكس الفلسطينيون بسلطة أوسلو وخرجت المقاومة الغزية من تحت الرماد وحوصرت ووصل الشعب الفلسطيني اليوم لمفصل تاريخي لم يتفاعل معه للأن
وفي خِضم اليتم العربي ، تغير الوضع في إيران ثم في تركيا للأفضل نحو التحرر من الصهيو أمريكي بثوبين سياسيين جديدين ، في دولتين قوميتين حتى العظم وكلاهما ترفعان شعار الإسلام. وهما يعرفان أن لا سوق لهذا الكلام إلا في الوطن العربي. تخوضان معركة تحررهما مع الغرب والصهيونية مستغلتان هذا الوطن السائب والمفتت. تغزوانه لتحصلان على أوراق سياسية لتعزيز صمودهما ووضعهما التفاوضي مع الغرب والصهيونية. وأصبحنا كوطن عربي بفضل انظمتنا مجالا حيويا ومتاحاً أمام الدولتين ، وأصبحت شعوبنا محل استقطاب بين الدولتين تَسَبّبَ في شرخ جديد وعميق في لحمتها وانتمائها. واتخذت الدولتان من شعبنا الموزع بين الجائع والمشرد واليائس والوطني الباحث عن مُنقذ ، صيداً سهلا لاستخدامه عسكراً مرتزقة لحساب مشاريع الدولتين وغيرهما. والمحارب المرتزق لا يمكن أن يكون إلا إرهبياً مأجوراً. نحن اليوم كشعوب نشكل عبئاً على قضيتنا وعلى وطننا ومستقبلنا ومنا الذي يعلم ذلك ويمضي ومنا من يفعله عن جهل ويمضي.
من القصور في التفكير السليم والرؤية السياسية أن نعتقد بأن تحرير فلسطين هدفٌ لأي من إيران أو تركيا في وظروفنا والظرف الدولي ، أو أن هناك دولة كبرى واحدة في العالم تساعد على تحرير فلسطين من اليهود بالذات. المفاهيم تغيرت وموازين القوة والقوى لها الأثر على الأرض والإقتصاد أصبح معياراً للدول العظمى. باستطاعتنا أن نتكلم عن مسؤولية المسلمين في تحرير فلسطين عندما يكونوا دولة واحدة أو رابطة دول لها شكل قانوني دولي وهذا من أصعب الصعوبات. مهمة التحرير هي لصاحب السيادة ، إنها مهمة عربية بالدرجة الأولى ، وسهلة على العرب في ظرفهم الطبيعي.. إلا أن تركيا وإيران هما الدولتان المؤهلتان لمساعدة العرب على تحرير فلسطين عندما يكون هناك عرب أحرار مستقلون وينتمون لوطنهم ولأنفسهم. ومن الخطورة بمكان أن نخلق من إحداهما عدوا لنا. تركيا دولة عظيمة وحِمل أردوغان ثقيل وخطير في تغيير قرن من ارث الغرب والصهيونية في بلاده ، وسيواجه أشرس حرب غربية ، فالغرب لن يقبل دولة اسلامية حرة في أوروبا. وإيران جزء من تاريخنا الإسلامي ولن تكون وكذا تركيا إلّا سندا لنا ولفلسطين. واجبنا أن نعمل كشعب على وحدة وتلاقي الدولتين فهذه الضمانة العربية التي لا تقاوم
فالتحدي الذي يواجه العرب واحد هو الإستهداف الغربي الصهيوني المشترك. وكل الإستهدافات الأخرى من جهات أخرى كايران وتركيا هي آثار جانبية ترتبت على نجاح هذا الاستهداف الصهيو غربي واستغلال نتائجه على الأرض لمنفعة لهما أو درء خطر. ونحن كشعوب عربية أسهمنا في مساعدتهما بشكل حاسم فرجالهم منا. كما أن هذا يُشكل عامل شد عكسي أمام تشكيل وعينا ونهضتنا ومقاومتنا ووحدتنا.
ولذلك أدعو إلى تشكيل رابطة قومية شعبية سياسية توعوية عابرة للأقطار العربية كمنظمة شعبية غير حكومية لمكافحة وتجريم وتخوين تجنيد المواطن العربي في صفوف ايران وتركيا أو أي جهة كانت إلا على قاعدة تحرير فلسطين وعلى أرض فلسطين. بالتزامن مع إيجاد الحلول المساعدة في هذا ، وتخوين ومقاطعة أي تكتل من داخل ألوان أقطارنا يتعاون مع غازي لوطنه. فكيف إذا كان هذا الغازي هو الصهيو أمريكي واللون النموذج هو ” قسد ” في سوريا مثلاً ، رغم ما قدمته سوريا للأكراد وقضيتهم على حساب أمنها الوطني. وعندها سيتوقف أو يتحجم بطش الدولتين بالأقطار العربية. فشعوبنا هي أداتهما وأداة كل غازي وطامع كما مر ، وهي جسم المنظمات الارهابية المقننة أيضاً لحساب الصهيو أمريكي كداعش والقاعدة وأفراخهما تحت أي مسمى.
كارثة بيروت عبرة ولن تمر بلا محصلة كبيرة فبلا ندفن رؤسنا بالرمل. لقد تنصل الجميع منها بما فيه حزب الله وحتى الشعب المستسلم للرغيف. حيث انصبت الجهود الدولية والعربية واللبنانية الرسمية على الإغاثات الاستعراضية التي لم نراها في غزة والضفة وهذا يجب على كل عربي أن يتوقف عنده. كما انصب على التركيز باتهام الإهمال والفساد. والغرض من كل هذا هو التغطية على الفاعل المجرم والخوف من ذكر اسمه وهو “اسرائيل”. فالكل خائن بفعل جبنه وعدم اكتراثه. ومن حق القضية الفلسطينية والشعب اللبناني والعربي أن تتعرى اسرائيل. ربما أني أبرئ الجميع المستسلم من هذا التنصل والتمويه وعدم اتهام اسرائيل أو الاشارة اليها ، إلا حزب الله فلا.
فنحن نعترف بأن لبنان هو القطر العربي الوحيد المستعصية أراضيه وحدوده على اسرائيل بل وأمريكا بفعل توازن الردع الذي صنعه حزب الله ، ونتقبل بفعل الظرف اتفاق الحزب والكيان الصهيوني على قواعد اشتباك تتضمن عدم المواجهة على الأرضين الفلسطينية واللبنانية. أما وقد اختُرقت هذه القاعدة بصرف النظر عن البادئ والدواعي التي تابعناها وفاحت رائحتها ، فما كان لحزب الله الذراع الايراني واللبناني الجسم أن يمتص رداً بهذا الحجم ويستأسد على ما لا يُذكر بجانبه. لنكن واضحين لا قوة عسكرية أو سياسية في لبنان فوق حزب الله ،إنه الدولة. وإذا لم يتخذ حزب الله موقفاً رادعاً ومناسباً بحجم الحدث تفعيلاً لآلية الردع أو يعطي تفسيراً مُقنعاً لصمته ً من هذه الكارثة سيفقد شرعيته اللبنانية بل والعربية وستنتهي اللعبة. وتكون كارثة بيروت هي البيان الإسرائيلي رقم (1 ) ولن يكون مستقبل للبنان إلَا كنتونات طائفية تخضع كلها للنفوذ الاسرائيلي المباشر ، وسيفكك حزب الله حينها أسلحته بنفسه ويسلمها لأصحابها. إنه لمنظر مقرف أن نرى الفرنسي يتصدر المشهد السياسي بترحيب حكومي وشعبي.