ما زال انتاج ملهاة الحديث عن الفساد في الاردن قائما ويُطرح في الشارع عند الحاجة، ويتم توجيه تعامل المواطنين معها وكأنها قصة معزولة عن النهج السياسي ومتطلبات المرحلة ويمكن معالجتها، ومع أن للفساد خصوصية مؤثرة وهدامة في الاردن تنبع من عدم وجود مورد طبيعي ثابت فيه مثل الدول النامية كالنفط ليغرف منه المال ويعوض قيمة الفساد ويسعف خزينة الدولة ، إلا أن الأهم والذي يجب ادراكه أن وجود الفساد في الأردن هي سياسة خارجية – داخلية مبرمجة في سياق استهداف الدوله ومواطنيها،وبأن الحديث عن وقف هذا الفساد او مكافحته بمعزل عن مواجهة سببه هو هراء وملهاة وتغطية على الحقيقه وعلى الواقع الأكثر مرارة.
فليست هناك من جهة رسمية في الأردن قادره على نبش الفساد أو مواجهته، فهذا أمر مرتبط بالتوقيت الذي سيستقر عليه الحال في الاردن وطبيعة هذا المستقر، فوقف الفساد في اطار النهج السياسي القائم مرتبط بإحلال أردن أخر وبارادة أجنبية، وعلينا أن ندرك بأن حجم الفساد عندنا ليس بمئات الملايين بل بعشرات المليارات نقده ، ومئات المليارات قيمته، فنحن نتكلم عن نهب دولة مراقبة دوليا من داعميها،والجهة الوحيده القادرة على نبش الفساد هم هؤلاء وستكون مدخولات الفساد يوما الى جانب الديون محل مساءلة وتفاوض سياسي وابتزاز.
ومن كون الفساد مبرمج ومقصود ، فقد تعاظم في الاردن وأصبح محل سباق للصف الأول والطبقة المتعاونة ، ولكن بحجم الرشاوي التي تنخر بالدولة لا بحجم المليارات التي لا نعرف طريقها، وقد يلاحظ المواطن أن بعض رؤساء الوزارات الذين كانوا قبل توليهم المنصب يُعرفون بالوطنية والاستقامة لا يلبث الواحد منهم بعد تسلمه المنصب وأن يكتشف الحقيقة ويكتشف عش الدبابير ويكتشف القيود وعجزه عن فعل شيئ سوى الاستقالة والنأي بنفسه عن تحمل مسئولية ليس وحده مسئولا عنها ، او الانضمام لنادي الفساد وأخذ نصيبه ونصيب اولاده من دم الشعب والوطن والدولة والخلق كما يحدث غالبا، ونظرا لضغوطات وتأثيرات تعاظم الفساد المعيشية والنفسية على المواطنين المترافقة مع يأسهم من جدية مواجهته فقد أصبح ملجأ ووسيلة لقواعد عريضة من المواطنين والموظفين في الخطوط الخلفية وفي كل موقع ومؤسسة، لا حبا منهم للفساد بل حبا بالبقاء، ويتشكل في هذه الحالة الفساد الاجتماعي بكل جوانبه كما نشهده اليوم وهو الأمر المطلوب.
لعل من المهم جدا أن نعلم بأن النهج السياسي في الأردن والذي ولِد مع ولادة الدولة هو الأصل في كل المشاكل التي نعاني منها ، فكلها مرتبطة بهذا النهج ووليدة له ومن لزومياته، ومن الجهل والعبث وغير المجدي أن نتكلم عن الفساد واصلاح الاقتصاد والتعليم او القضاء او قوانين الأحزاب والانتخاب وعن العدالة الاجتماعية والمواطنه او مواجهة مشاكل البطالة والاستثمار والخلل في أجهزة الدولة بمعزل عن الفساد السياسي كونه الذي يفرخ كل انواع واشكال الفساد في الاردن، فالسياسة الخارجية للاردن هي مربط الفرس ومركز الداء والدواء،
ولنعلم بأن وظيفة الحكومات وأجهزة الدولة الاساسية في هذا الصدد كانت وما زالت هي ضبط الشارع وتوجيهه بعيدا عن البعد السياسي المسئول عن كل ما يعانيه الاردنيون ودولتهم من ناحية ، وإدماج الشعب في السيستم للتعايش مع السياسات الداخلية التي تخدم اهداف السياسة الخارجية من جهة أخرى، وقد قامت الدولة لهذا الغرض بصنع او تبني كل مؤسسات التوعيه والمحاسبه والرقابه على قياسها ، والتي من المفترض أن تكون شعبية خالصه وقادرة على المراقبة ومواجهة سياسات الدولة الخاطئة.
المشكلة العويصة أن الشعب ما زال يعتقد بأنه يعيش ماضي الدولة وعلاقته بها ، وماضي علاقة الملك به وبالدولة ولا يدرك بأن كل هذا قد تغير لأسباب استراتيجية ، وأن الدولة في مرحلة اعادة الهيكلة بما يتلاءم مع متطلبات تصفية القضية الفلسطينية، وما زال يعتقد بأن مشاكله مجرد سوء ادارة ومحاباة وفساد وضرائب وغلاء اسعار بعيدا عن كونها من أدوات التركيع أو التغيير المصنوعة أمريكيا والمنفذة بأيد محلية لخلق ثقافة ومفاهيم جديدة لدى الناس تتفق مع متطالبات المرحلة القادمة، ولا يقتنع بأنه ليس عند هذا الرجل ولا عند هذه الإمرأة ثأر عند أحد ، وأن المسألة لا تتعدى ارتباطات سياسية عميقة، وما لم يدرك هذا الشعب السياق والأرضية السياسية لهذا التحول العميق ويربط حاضر النظام بماضيه ، وما لم يدرك حقيقة وهدف هذه التغييرات من حوله والى أين تسير بالدولة وبه فلن يتغير خطابه وسلوكه وسيبقى يلعب لعبة الموت مع النظام على كف عدس أو رغيف من الخبز.
علينا أن ندرك التغيير أولا، ونتذكر بأنه كانت في الأردن ثلاث جهات فاعلة في التعاون لإخراج القرار المطلوب للنهج وسيرورته، هي الديوان الملكي والحكومة والمخابرات، وكانت الأمور أكثر ضبطا والفساد مرشدا والوظيفة العامة وأجهزة الدولة أكثر اتزانا، واليوم جميع هذه الجهات فقدت دورها التاريخي وانسجامها بدخول الأردن مرحلة جديدة وما يتطلبه ذلك من تغيير طريقة اتخاذ القرار، وهذا بدوره تطلب إعادة هيكلة وأسس عمل هذه الجهات واختصاصاتها ، مما استلزم أن يطالها التخريب والتهزيء المبرمج وفقدانها لبريقها وتأثيرها.
فالديوان الملكي أصبح وحده مركز العمليات وإخراج القرار والمختصِر للدولة ، وذلك في سياق مسئولية النظام في تنفيذ سياسات المرحله المفصلة في الخارج، ومن هنا يتم تغييب الشخصيات التقليدية في الديوان والتي كانت تحمل مفاهيم غير المفاهيم القادمة ، ويغيب التواجد العشائري فيه ليس لقصور في أداء الواجب ، فهم ملكيين أكثر من الملك ، بل جاء هذا في سياق حلول سياسة تهميش العشائر في الأردن وإنهاء ثقلها ومراكز القوة في الديوان وفي الدولة بشكل عام لصالح قوة واحدة في داخله، وذلك في إطار مراحل المخطط الصهيو- أمريكي الذي يؤثر بدوره على سلوك القيادة الهاشمية وجريها لتأمين مصالحها في الحكم والمال، كما انهى الديوان مؤسسة كبار الشخصيات التي كان الملك يتعاون معها ويغرف منها عند الحاجة أو يتكئ عليها ، والتي تضم رؤساء الحكومات السابقين ومدراء الأجهزه العسكرية والأمنية،وأصبحوا لا في حساب الدولة ولا في حساب الشارع مأسورين لماضيهم المستهلك.
أما الحكومات فقد قيض لها أن تصبح ممسحة هزئة لا قيمة اطلاقا لرئيس او وزير فيها، وكيفما كانو او تبدلوا فهم مع بقاء النهج السياسي وتخليهم عن مسئولياتهم الدستورية لا يمكن أن يكونوا سوى مأجورين وصوليين منتفعين، إنهم يعلمون بأنهم فاقدوا الارادة وحرية القرار وأن حدودهم معروفة، فهم للعالم ديكور ولمن عينهم موظفين منفذي برامج وتعليمات وموقعين على فرمانات لا دخل لهم فيها، أما للأردنيين فهم حبل غسيل ينشرون عليه عجزهم،
والمخابرات التي كانت الرقم التاريخي الصعب في الاردن على الصعيدين الخارجي والداخلي والسطوة الادارية على أجهزة الدولة ومصدر قوة وحماية للنظام ومصدر معلومات سياسية ايضا ، فإنها اليوم تخضع لسياسة المرحلة وإعادة الهيكلة ،وتعاني من حرب تهميش وتحجيم من الديوان لهذا الهدف، لقد فقدت الكثير من دورها واعتبارها حتى عند الحكومات التي أصبحت تتلقى التعليمات من الديوان الملكي مباشرة، وأخذ الديوان الكثير من دور المخابرات الاستخباري والسياسي والمعلوماتي بحكم انفتاح مركز قوته على قوى خارجية،وأصبح لديه مخابراته التي تتمتع باستقلالية عملية بحكم الواقع، وأثر هذا كله على تماسك جهاز المخابرات سلبا وبرزت فيه مراكز قوة وتمحور واستقطاب وتذمر، واعتقد ان دائرة المخابرات اليوم تحاول فرض نفسها على الديوان من خلال فرض نفسها على الأحداث الداخلية وتواصلها الاستخباري الروتيني مع الجهات الاستخبارية الأجنبية.
ومن هنا فقد انتقل الجهد اليوم الى ما يشبه سياسة اشعال الحرائق وإطفائها، فحراكات الشارع وتوجيهها الوجهة الخاطئة يبدو مبرمجا، والمتبرعين لهذا الغرض كثر بفعل شيوع الفساد واللهاث للحاق به وأخذ حصصهم، تماما كسلوك امريكا عندما فاجأها الربيع العربي سارعت لتبنيه وتوجيهه الوجهة التي تخدمها، والحقيقة أن أي حراك يقوم على اتهام ومهاجمة الحكومات والمسئولين والمطالبة بتغيير الوجوه ، او على المطالبة باصلاحات اقتصادية وضريبية ومكافحة الفساد هي حراكات فاسدة ومردودها عكسي، وإن أي حراك في الحالة الأردنية لا يقوم على أرضية سياسية وشعارات سياسية هو حراك مركوب وفاسد، ولا مخرج للأردن إلا في التغيير السياسي الاستراتيجي باتجاه التخلي عن معسكر أعداء الأمة.
كاتب وباحث عربي