ما كان غياب الملك يوما كهذه المرة يثير زوبعة شعبية ومحل تساؤل أو مشكلة داخلية وموضوعا جدليا عرى وعمق عجز الحكومات وشكلية المؤسسات وأحيا الأموات، وكمم أفواه مراكز القوة النائمة عن لغة الكلام المباح واستبدالها بلغة العيون لا تجرأ أن تسأل بعضها، فلماذا لم يجر تفهم خلفية التساؤل عن الملك، وهل ما زال التساؤل عنه قائما ومشروعا بصرف النظر عن عودته أو عدم عودته، إن كان الأمر كذلك فالأردن في ورطه سواء كانت تقوم على حقيقة أو على وهم، مما يوجب الشفافية في التساؤلات والإجابات.
من سذاجة القول لشعب واع أن سفرة الملك هذه المرة كانت كغيرها وأنه غادر بما حمل وعاد بنفس ما حمل، لقد جاءت في ظروف سياسية مفصلية، ومحلية مرتبكة تجعل منها زيارة عمل لها خطورتها، فالأردن ليس كأي دولة عربية بطبيعة إنشائه وبارتباطاته المبكرة ولا بتركيبته السكانية ولا بعضوية ارتباطه بالقضية الفلسطينية، إنها دولة وظيفية ومرحلية، سياسية الطبيعة، والطوق ما كان يوما الا محكما عليها، وقيادتها الهاشمية التي قبلت الدور أو ابتلعته على أمل الإنقلاب عليه لم تستطيع عبر السنين أن تنجح في ذلك، بفعل تحالف الصهيونية الغربية – الأمريكية – العربية، بل مُنِحت من الدعم والحرية المضبوط إيقاعهما ما ينشئ دولة على المقاس المطلوب للدولة المرحلية.
من هنا كان الملك هو الدولة والدولة هي الملك، وكانت السياسة الخارجية في الاردن حكرا عليه بشخصه ومن يدعي أو يعتقد من المسئولين بمعرفته لهذه السياسة فهو واهم، وأذكر هنا عندما قال دولة الأستاذ الروابده يوما في معرض توضيحه لمضمون شعار” الأردن أولا” كشعار سياسي بامتياز بأن منطوقه يعني أن هناك ثانيا وثالثا، وكيف جاءه الرد من الملك سريعا في كتاب تكليفه لدولة الأستاذ فيصل الفايز بأن الأردن هو أولا وثانيا وثالثا، ومن هنا فقد جاءت السياسة الخارجية الأردنية أقرب الى سياسة المواقف، ويسبغها الغموض والهلامية والتقلب والتساؤلات الوطنية والقومية، والمحلل في الأردن إذا لم يستطع التفريق بين الحدث السياسي وغير السياسي فقد ضاع، وأي حدث يراه المواطن غامضا أو مرفوضا أو عصيا على الفهم أو التفهم إذا لم يربطه المحلل بالسياسة الخارجية فقد ضاع.
الأردن اليوم يواجه الحقيقة ملكا وشعبا، ذلك أن صفقة القرن بمفهومها التصفوي الطبيعة للقضية الفلسطينية ومكوناتها، لا يكون إلا بطريقة الفرض على الحكام المعنيين، وتحميلهم مسئولية التنفيذ. أما الشعوب العربية المعنية بالصفقة وأخص الفلسطينيين والأردنيين فلا حديث معهم بشأن هذه الصفقة، لكنهم هم العنصر الحاسم والأكثر خطرا على مشروع هذه التصفية وتمريرها كون تداعياتها الخطيرة هم محلها وأصحابها ومشعلوها على المتورطين فيها.
ولو افترضنا أن الحكام المعنيين هم أربعة، فعباس كواحد منهم لا يهم امريكا فسلطته شكلية وشعب الضفة عندما يثور فهي مسئولية سلطة الاحتلال بالدرجة الأولى لا سلطته، وصديقه في الجنوب مسألته بسيطة جدا والمطلوب منه إن كان الأمر دقيقا لا يعني لشعبه تنازلا عن اراض بل تبادلا يدرج كمصلحة للأمن القومي لهذا البلد، أما صديقه السعودي فمسئولياته المال وهو غب الطلب.
فتبقى صفقة التصفية في الواقع معتمدة على قبول الملك، فالأردن هو الوسيلة لتحقيقها ومحلها الأساسي والمنفذ لجميع مستلزمات التمهيد لها كالتوطين للاجئين الفلسطينيين بعد نزع وضعهم القانوني السياسي وجنسيتهم الفلسطينية مثلا، فالملك هو مربط الفرس ولديه ثلاثة محذورات كبيرة جدا على مجمل الصفقة.
المحذور الأول، التزاماته الأدبية السياسية الوطنية أمام الأردنيين والفلسطينيين.
الثاني، لديه هواجس أمام نفسه وأسئلة حول مصير موقعه القيادي حجما ونوعا وضمانات بقاء العرش وحمايته.
أما الثالث، فهو أن الأردن بشعبه الشرق أردني وبما يضمه من ملايين المواطنين الأردنيين الفلسطيني الأصول وملايين اللاجئين الفلسطينيين المسجلين كلاجئين، ولكونهم بفئاتهم الثلاث هم المتضررين مباشرة، فسيكون الأردن هو المسرح الطبيعي للتداعيات وسيكون الملك عندها في وضع جديد وفي مواجهة مباشرة مع الشعب.
لقد اطلع الملك خلال الأشهر الماضية على كثير من متطلبات الصفقة وليس بالضرورة على كاملها بتفاصيلها وبمنتهاها، ومن المرجح أنه لم ولن يعط إجابات حاسمة عليها ما لم يعرف التفاصيل ومنتهاها أمام المحاذير الثلاثة ويصل لشرط خيار الصفر لقبولها أو رفضها، ومن هنا يمكن تفسير تصريحاته المؤكدة على الثوابت بعد كل اتصال أو مقابلة أو نقاش أو حتى خبر يسمعه، ومن هنا أيضا كان الوقت لسفرته الأخيرة مرتبا لبحث موضوع المطلوب منه للصفقة التي يطرحها الأمريكيون كخطة سلام ،وعلينا أن نعلم بأن حديث أمريكا مع الملك على الأرض الأمريكية يكون مختلفا جدا في طبيعته وصراحته، فالأردن ليس عند أمريكا كمصر أو سوريا أو أي بلد عربي أخر ولا داعي للتفصيلات التي قد يتعذر نشرها.
لذلك فإن المسألة التي انشغل بها الجميع بعنوان أين الملك ستبقى قائمة بمضمونها في إطار ملابساتها حتى تنجلي في سلوك الملك لا في غيابه وحضوره، وما كان ولن يكون مقبولا أن يتم التعامل معها شِعرا ولا أن تكون محل استغلال لأحد ولا ينفع فيها الإفك والنفاق والسطحية في الكلام، الملك بشخصه هو عنصر الاستقرار القائم في الأردن وفي نفوس كل المواطنين، وكانت سفرته هذه المرة في سياق سياسي رافقتها مؤشرات ومستجدات يجعل منها محل سؤال له ما يبرره، وعلى رأسها أن الملك لم يظهر ولم يصرح في الاعلام هناك، وهو الذي اعتاد على أن يستغل زياراته الخاصة في بلد كأمريكا بالقيام بنشاط سياسي مهما كان حجم هذا النشاط، فهل كان هذا من فراغ أم لأسباب، وكيف يصار الى اقناع الناس بزوالها مثلا، والمهم هنا أن تعرف أمريكا أن اختراق الملك بالضغوطات لن يكون نافذا ولا مفيدا لها أمام وحدة الشعب الاردني صاحب الكلمة واعتباره الملك جزءا منه ومن مصيره.
عودة الملك مع صمت الملك لا يعني إجابة على تساؤلات “أين الملك” وعدم الشفافية بالكلام هو صمت ويعمق التساؤل، فهل هذا هو من قبيل التعتيم والغموص المقصود، وأنه بدوره قائم على خلفية سياسية وله أسبابه، أم مجرد تلاعب بالأعصاب ومزحة ظلها ثقيل.
الظروف السياسية بشأن القضية الفلسطينية والظروف المحلية المرتبكة وتغير الوصف الوظيفي للديوان الملكي بجعله مركز السلطات والحكم والقرار، واختصار العائلة المالكه بالملك وأهل بيته بما يشبه الوضع في السعودية الى جانب سلوك الملك في الشكل أثناء الزيارة الأخيره وبلبلة التناقض الحكومي في موعد وصوله كلها مؤشرات غير إيجابية . ومن الصعب أن نفهم استمرار التعتيم وغياب الشفافية والإرباك الا على خلفية سلبية أقلها التمهيد لموقف أردني يجري إخراجه بطريقة يتفهمها الأردنيون.
كاتب وباحث عربي