في هذه المرحلة المتقدمة على طريق تصفية القضية الفلسطينية، يدخل حكام العرب المعنيين بتنفيذ المطلوب منهم في مرحلة مواجهة ناعمة مع شعوبهم عنوانها (كيف يتبرأون من التزاماتهم السياسية التي قطعوها لشعوبهم) ولينتبه كل مواطن عربي أنهم لجأوا في هذا، الى لعبة خطيرة تكمن في تغيير مفاهيم المصطلحات التي لا تقبل التأويل والتحريف لتبرير عملهم الحثيث ودورهم في تصفية مكونات القضية الفلسطينية، وإنما تقبل الرفض والتزام الشعوب بمفاهيمها التي لا تقبل التلاعب.
المتابعون الذين استمعوا لكلمات الملك في لقائه الأخير مع مجلس الوزراء والذي لا يُغني عن خطاب يوجهه للشعب لإزالة اللبس وتوضيح ما يجري وموقفنا منه بشيء من التفاصيل والشفافية الممكنتين، والتعبير عن شراكته للشعب في الوطن والقرار والمصير، أقول إن هؤلاء المتابعين من غير المحللين كان وصفهم البريء لكلام الملك على أنه كلام يخلو من الجديد من واقع أنه جاء مقتضبا على شكل عناوين كرر فيه عبارات الإلتزام بالثوابت السياسية، وتكذيب فكرة الوطن البديل، وبأن الحديث في الغرف المغلقة وخارجها واحد.
والواقع أن هذا الكلام جاء بمعزل عن المستجدات السياسية والمحلية ومنسلخا عنها، وبمعزل عن المسعى الأمريكي القائم لفرض الرؤية الاسرائيلية في طوي الملف الفلسطيني، وعن الضغوطات الإبتزازية على الأردن التي طالما تحدث عنها الملك، وبمعزل عن لقاءات له مفترَضة حكماً مع الأمريكيين في غرف مغلقة خلال زيارته الأخيرة وانصبابها على صفقة القرن ومتطلباتها، وعن حوار حول محاذيرها ومحاذير عدم قبولها أو تنفيذها، وأنه سبقها لقاءات واتصالات في عمان على نفس الخلفية للخطة التنفيذية المعدة باسم تجاري أمريكي هو صفقة القرن ثم بإسم تسويقي هو مشروع سلام أمريكي ومضمونها في الحالتين واحد، وهذا ما يجعل من كلامه غير كاف وعليه علامات استفهام عميقة في غياب توضيحه ونقاشه.
عبارات الملك المشار اليها بالشأن السياسي في لقائه مع مجلس الوزراء لا تسندها مقومات ولا تتفق مع معطيات ضعف النظام السياسي التاريخي أمام أمريكا والتي ما زالت لصيقة به وتبقيه الحلقة الأضعف، وذلك لعدم وجود مؤشرات لانقلابه على تلك المعطيات في غياب تغيير نهجه او تحالفاته السياسية من ناحية، والإبقاء على علاقة الهجران مع الشعب، وهشاشة الدولة وجبهتها الداخلية من ناحية أخرى، من هنا، يكون من المرجح بأنه عندما حضر لعمان اضطراريا وربما لفترة بسيطة تحت ضغط الشارع دون استكمال المهمة هناك أو استقرارها، قد أطلق نفس العناوين السياسية ولكن بنية منطوية على تغيير مفهوم المصطلحات،
وبهذا أقول: ليكن مفهوما أن المقصود بمصطلح “الوطن البديل” ليس إقامة دولة فلسطينية في الأردن ولا دولة باسم دولة فلسطين في الأردن . بل المقصود بالمصطلح هو تفريغ مكونات القضية الفلسطينية السكانية والسياسية والوطنية خارج أرض فلسطين، وفي الأردن بالذات، وإنهاء أية حقوق وطنية سيادية للشعب الفلسطيني على أي شبر من فلسطين ما بين البحر والنهر، وعلى المقدسات الاسلامية والمسيحية فيها. وإن مواجهة العالم لإسرائيل بالسؤال، كيف تطردين شعبا من ارضه التاريخية وتحرمينه من دولته في فلسطين وتحللينها لنفسك وحدك، سترد عليه بنفس الرسائل التي اوصلتها له رسميا قبل سنين وعقود.
وردها هذا هو، إننا لم نطرد الشعب الفلسطيني من أرضه بل ننفذ قرار الأمم المتحدة رقم 181 الذي يقسم فلسطين بين العرب واليهود، وبأن فلسطين كما ينص عليها صك الانتداب هي من البحر الى عمق الصحراء الأردنية، وإننا أخذنا ربع مساحتها من البحر الى النهر، وتركنا للعرب ثلاثة أرباع.
فالأردن حسب المنطق الإسرائيلي هو وطن أصيل للفلسطينيين، وبديل في تعريفنا . وسيصار الى وضع العالم أمام الأمر الواقع بجبروت امريكا وموافقة الزعماء العرب، وعلى الملك وكل حاكم عربي أن ينتبه لمفهوم الوطن البديل عندنا ومفهومه لدى اسرائيل وأن لا يرضخ لواقع القوة وبيصم على تقنين ضياع فلسطين، ويتذكر بأن اليهود القدامى الذين يتكئ عليهم متهودي الخزر لم يكونوا دقيقة واحدة بالتاريخ سادة على فلسطين أو على جزء منها، وأن الفلسطينيين هم اصحاب الأرض الأصيلين والتاريخيين ولم يغادروها عبر التاريخ دقيقة واحدة وهذا موثق بالتاريخ وبالتوراة نفسها.
صفقة القرن ليست جديدة بحد ذاتها، بصرف النظر عن الأسماء، لقد كانت دوما وما زالت تمثل رؤية اسرائيل لطوي الملف الفلسطيني من طرف واحد، وهي تعني باختصار الوطن البديل.. والباقي تمهيد وتفصيلات ودجليات، بل الجديد هو تبني أمريكا لصياغتها وإعلانها وتنفيذها.. وهذا التبني لم يكن مرتبطا بشخص ترمب أو بأي رئيس أمريكي أخر، بل بالتوقيت المناسب، وكان غياب سوريا والعراق وتجنيد أنظمة الدول العربية الكبرى الأخرى وتغيير اولويات الشعوب العربية فرصة لإعلانها وتنفيذها، وهي الأن تلبس اسم مشروع التسوية السلمية والعمل على تنفيذ متطلباتها جاريا جريا حثيثا وبهدوء، إنها تصفية لمكونات القضية الفلسطينية وعلى رأسها مسائل الحل النهائي في اتفاقية أوسلو، وعلى هامشها تم تنظيف جنوب سوريا من الارهاب بمساعدة اردنية إسرائيلية، والضغوطات الجارية لاخراج ايران من سوريا هي من متطلباتها الهامة أيضا.
فالكل يلاحظ، أن زوبعة القدس انتهت عربيا ودوليا حيث تمسكت امريكا واسرائيل بتهدويدها على الارض، وانتهت صرخة العالم ومعه العرب على حبر في اوراق الأمم المتحدة، وصرخنا في الاردن بحقنا في سدانة الأقصى، وتلا القدس قرار يهودية اسرائيل ومر أيضا دون موقف عربي أو دولي رسمي، وأنهت اسرائيل به مسائل السيادة والحدود وحل الدولتين، ومهدت لطرد العرب من فلسطين، وبقي من متطلبات تصفية القضية مسألتي اللاجئين ومقاومة حماس وهما مسألتين لا تستطيع امريكا او اسرائيل طويهما مباشرة بل تحتاجان لجهود عربية تنطوي على الخيانة والتأمر، والعمل جار على ذلك بهدوء.
أما مسألة اللاجئين، فالعمل حثيث على تغيير مفهوم مصطلحها السياسي، وقد تناولتها اتفاقية وادي عربة في المادة الثامنه كمسألة انسانية دون بعدها السياسي، وجاءت خالية من ذكر العودة وحق العودة تماما . ونصت بدلا من ذلك في الفرع ج من الفقرة الثانية من تلك المادة صراحة على توطينهم، وقد ذكر بيريز أمام الجمعية العامة في جلسة عقدت للاستماع اليه وكنت حاضرا فيها بأن الأردن بتوقيعه اتفاقية وادي عربة لا يستحق المساعدة المالية كما في مصر حين وقعت كامب ديفيد كون الأخيرة قادرة على أن تصنع حربا وتصنع سلاما، ولا كالمساعدة التي ستحصل عليها سوريا إن وقعت معاهدة لأنها قادرة على تخريب السلام، ولكن الأردن لا يصنع حربا ولا سلاما ولا يخربه، وسيتلقى المساعدات عندما يوطن اللاجئين.
إن ا التصفية الجارية لمسألة اللاجئين تنطلق من وكالة الغوث التي كانت وما زالت محل حرب ومطالبه بإنهاء عملها، لأن إنشاءها ووجودها يمثل البعد السياسي للقضية الفلسطينية، فبعدها الإنساني في تقديم المساعدات ليس هما لأمريكا وإسرائيل، ولأن حل الوكالة مرتبط بقرار من الجمعية العامة وأن هذا معقد وربما مستحيل، فإن العمل جار وحثيث على اختصار طريق تصفية مسألة اللاجئين وإسقاط الوكالة معا بحكم الأمر الواقع، وذلك عن طريق نزع الصفة القانونية للاجئ الفلسطيني بمنحه الجنسية لأردنية وغيرها، والعمل جار أيضا في بحث الترتيبات على الورق والتوطين على الأرض، وعندها تزال عقبة اللاجئين كمسألة سياسية وإنسانية معا، وإن كان ذلك يشكل جرما سياسيا وبشريا وأخلاقيا ووصمة عار على جبين الحكام العرب، فإن العبرة هي نفسها العقبة، فالشعب الفلسطيني موجود ويتزايد وارتباطه بوطنه موجود ويتزايد ولم تكن الجنسية ولا جواز السفر يوما ينزع الأوطان من الصدور.
أما التخلص من مقاومة حماس كعقبة متبقية، فإن الاتفاق الأخير على هدنة طويلة الأمد بين حماس واسرائيل بمعزل عن سلطة رام الله في هذا الظرف الذي تجري فيه تصفية القضية، يصب في فتح باب للحوار السياسي مع حماس الذي قد تبدأه اسرائيل بعد صنع واقع عربي ودولي يائس أمامها وتقرير مصير السلطة، ومسألة اللاجئين.. وإن كنا لا نستطيع انكار دور الحصار التاريخي اللاإنساني بنوعيته على القطاع دون مقدرة العالم على فكه، ولا نعلم ظروف حماس وخلفية التوقيع على الاتفاق ومفهومها له، فإننا لا نستطيع عزل الهجمة الأمريكية بكل الأسلحة على ايران في التأثير على سلوك وخيارات حماس، ولا ننسى أن وقف دعم حماس كان أحد شروط امريكا الإثني عشر لتجنيب ايران ما أسمته بالعقوبات الأقسى في التاريخ.
كاتب وباحث عربي