عندما نتكلم عن الفساد في الأردن إنما نتكلم عن فساد الصف الأول ومراكز القوة والماسكين بالقانون ولوائح الاتهام والقرار ومفاتيح الخزائن والقضاء والسجون، وهؤلاء هم “الشخصيات” إنهم هم من يغتالون شخصية الأردن كدولة ووطن وشعب، سُمُّ روائحهم تفوح من قصورهم ورئاساتهم بلا توقف، يقتحم بيوت المظلومين والفقراء والمهمشين، ويسكن فيها لا يخرج منها إلا مودعا في مقبرة سحاب ومقابر القرى والفيافي وأم الحيران، لكن هذه البيوت تبقى قائمة تفرخ الأدميين، والشخصيات بدورها تفرخ وتبقى فراخها تلاحق فراخ الآدميين وتُدخِل سمومها لها.
شعب أفقرته وأذلته “شخصية الشخصيات”، ورويبضات تلاحق المواطن في كل معاملة أو وسيلة يعتاش منها في دولة يخضع اقتصادها لمصالح الطبقية والفساد وضرائب الخاوات التي لا تضاهيها ضرائب، ولا تماهيها دولة في ظلم المعادلة بين المكلف ومقدرته، ولا بين المكلف وحقوقه المقابله، وقيمة الخدمة في الفاتورة مجرد جزء يسير من مجموعة الضرائب عليها.
لا أحد يقبل اغتيال شخصية الشخصيات، ولا أيضا شخصية المهمشين والمقطوعين من شجره وهم ملايين الشعب، ولكنا نرفض أن تغتال هذه الشخصيات شعبا برزقه ومعاشه وسمعته وبأحلام أطفاله، ونرفض أن تستهدف دولته بالتخلف والتدمير بالمضمون والصورة . فما هي الطريق اليهم يا صاحب القرار مع أنهم ليسو كل القضية، ولا القضية تنتهي عندهم . بل أن الوصول اليهم مؤشر على ولادة ارادة سياسية في مكافحة الفساد ومنعه، فهل من المسموح أو الممكن أن يذهب المواطن الى دوائرهم ومعاقلهم الرسمية ويطلب منها وثائق رسمية تدينهم؟ وهل هذه هي وظيفة مناطة بالمواطنين؟
وعودكم يا صاحب القرار بقصم ظهر الفساد مستمرة منذ سنين ولا يتبعها إلا تضخم وتعمق وانتشار هذا الفساد، ولا تفسير لذلك إلا بواحد من اثنين فإما أن الفساد مرعي ومحمي بقدرة تفوق قدرتك كملك بيدك السلطة والقرار، وعليك حينها أن تصارحنا، وإما أننا جميعنا شركاء في هذا الفساد، ونحن نعلم أن الفساد ظاهرة في كل أو معظم الدول العربية إلا أن له خصوصية في الأردن كدولة لا تملك موردا أساسيا ثابتا نغرف منه لتغطية كلفة هذا الفساد، فترتد أعباءه على الدولة تدميرا وعلى الشعب ضرائب لا تتوقف حتى يتوقف الفساد أو تتوقف الدوله.
إن مقولة قصم ظهر الفساد عندما جاءت معطوفة على مقولة عدم اغتيال الشخصيات، جعلت الأمر برمته ملتبسا، فإن كان هذا الربط حقا لا يراد به باطل، ولا يراد به حماية الفاسدين والفساد كما فسره الكثيرون، كان على صاحب القرار أن يقرن قول حُرمة اغتيال الشخصيات بتصور عملي وقانوني نافذ للوصول الى رؤس الفساد الحقيقيين دون اغتيال شخصياتهم، وإن كنا فعلا نريد قصم ظهر الفساد فلا يمكن أن نوكل المهمة الى نفس طواقم الفساد من المسئولين، ولا بد من توفر الارادة السياسية التي تبدأ بغلق أبواب الفساد المشرعة والثغرات التي ينفذ منها.
وهي موجودة في القوانين والأنظمة القائمة والمطاطة وحمالة الأوجه وفي نقص في القوانين اللازمة، وفي سلطات ثلاث بلا سلطة ولا استقلالية، فيها السلطة التشريعية- الرقابية التي تمثل ارادة الشعب مزورة، وفي الخلل والاختلالات الادارية في كل جهاز او دائرة عامة في الأردن، وفي افتقادنا للمأسسه الحقيقية وللقانون المهيمن على الجميع، وبافتقادنا لدولة المواطنة والعدالة الاجتماعية المذبوحة بأوطى معايير العدالة والوطنية، وكل هذا موجود في الأردن بإصرار، ألا يعلم صاحب القرار في الواقع كل ذلك، المواطنون كلهم يعرفونه.
دولة الفساد تتراجع بمضمون عميق وسلوك جريء باستغفال وابتزاز رخيصين، بدوها وفلاحوها استُخدموا مبكرا بألعن الاستخدامات التي طالت بعضهم وطنيتهم وعروبتهم وتُركوا اليوم أسرى للماضى، وما زال بعضهم يبكي مكاسب تعودوا عليها من كعكة فساد تآكلت ولم تعد تكفي إلا “للخيرة”، وما يطخطخون إلا من أجل هذا وبذخيرة صوتية، بينما الأمن السياسي والإجتماعي والغذائي للأردن وشعبه يُقصف بذخيرة حية .
إن الطخ على الحكومات أمر مشروع في السياسية لو كانت هذه الحكومات تملك قرراها، وهذا لا يعفيها من المسئولية .وتبقى الشفقة على من يطخ عليها، إلا أن الطخ على الديوان موجود وينطلق من كل مكان في الأردن من كاتمات الصوت فارغات الذخيرة، وما كان لذلك أن يكون لو بقي القصر مرجعية للجميع وللتوازنات، وبقي الديوان ضمن وصفه الدستوري والتقليدي ولم يصبح هو الحكومة وباقي السلطات ومركز الحكم والقرار، بجهاز متكرش رائحة فساده تزكم الأنوف وطعمه يثير الغثيان والتقيؤ.
باعتقادي أن الملك لا يريد أن يسمع ما يعرفه، وصاحب الموقف المسبق لا يتقبل الرأي الأخر أو مناقشته، فمن يحتكر السلطة يحتكر الحقيقة . ومن يحتكر الحقيقة يصبح التغيير عدوه، ومن لا يتغير لا يتقدم إلا للخلف، لكن أقنعة وجوه رؤوس الفساد تنكمش وتتآكل مع انتشار الفساد وتثاقل الضغوطات على الناس . فهل تنشط وسائل حمايته؟، وهل نشهد ملعوب قانون مكافحة الارهاب الفضفاض يتكرر في حالة الفساد من خلال قانون مكافحة اغتيال الشخصيه، فاستخدام القانون لتنفيذ أغراض أخرى سياسة قائمة عندنا؟
على الأردنيين أن يفهموا أن الأردن حالة خاصة في الوطن العربي مرتبطة بالقضية الفلسطينية . ولا يشبهها في هذا إلا السعودية، وعليهم أن يدركوا مرة واحدة أن ارتباطات وتبعات السياسة الخارجية التي يحتكرها الملك بصفته الشخصية لا بصفته رئيسا للسلطة التنفيذية، هي وراء كل ما يشهدونه من خلل واختلالات داخلية، فالسياسة الداخلية عندنا هي في خدمة السياسة الخارجية والفساد منتوج لتبعات هذا المنطق المعكوس.
أمَّا لرئيس الحكومة ولمن سيليه أقول، من يقبل لنفسه المنصب بلا ولايته الدستورية فقد قبل أن يدخل في نهج من سبقوه ويكون شريكا بالفساد السياسي والمالي والإداري ولا سبيل لإبراء ذمته حين خروجه من المنصب ولا ابرأها واحد منهم يوما . والرزاز بلا ولاية، وأقول له إن الفساد في الأردن أزمة حكم وسياسة وتتخطى حدوده الأردن، رؤوس الفساد في صفك وأكبر، وأرجله في كل أجهزة الدولة، ومهما بلغت قيمة فساد هذه الأرجل من الملايين تبقى مجرد رشاوي بسيطة وثمن تسهيلات، والهدف هو القضية.
وأنت في المعادلة بحجم الصوص، أخرج من توريطك لنفسك، ودع لعبة الأطفال في القبض على ضحايا الفساد من الفراشين والمراسلين والكتبة والعاطلين عن العمل والمحتاجين تحت عنوان مكافحة الفساد، دعها في سياقها القانوني دون تلويثها وخلطها بالفساد، إنه مسلسل مفضوح ولا قصد منه سوى التغطية الإعلامية على استمرا الفساد الى أن يقضي وطره.
كاتب وباحث عربي