فتح وحماس أمام محكمة الشعب الفلسطيني.. ولن تخرج القضية من دوامة السقوط دون تجاوز مشهدين

في بداية ستينيات القرن الماضي تبلورت فكرة حرب التحرير الشعبية الفلسطينية بعد يأس من سلوك وثقافة الأنظمة العربية والأحزاب والأيدولوجيات، وربما سمع البعض بمقاومة (أبطال العودة) كنتاج لعمل حزبي فلسطيني قومي، إلا أن زخم المقاومة الفلسطينية انبلج مرة واحدة مع عرفات ومجموعته بعيدا عن الالتزام الحزبي، لنصبح بعد ذلك ومباشرة أمام شعب فلسطيني متعطش للمقاومة ومعبئ نفسيا لها، وأمام عدد متزايد من منظمات المقاومة التي ولد معظمها بدعم مالي وعسكري وسياسي من الانظمة العربية والقليل من السوفييت والصين، وكانت تستقطب كوادرها بسهوله، فالشعب الفلسطيني الذي كان تواقا للمقاومة والتحرير انخرط بالمقاومة دون خلفيات حزبية وأيدولوجية.
ما أريد قوله هو أن الشعب الفلسطيني كانت تقوده فكرة المقاومة والتحرير لا فكرة الأحزاب والأيدولوجيات ولا الأنظمة أو أسطورة المخلص، وإن هجمة الأنظمة العربية على المقاومة في مهدها في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي وركوبها للاستفادة منها وتوجيهها لوجهتها يذكرني بالربيع العربي الذي ما أن ظهر في تونس حتى سارعت أمريكا والصهيونية لركوبه وتوجيهه لوجهتها
وإذا كان من الطبيعي أن تبدأ المقاومة الفلسطينية الشعبية في ستينيات القرن الفائت بعد يأس من سلوك وثقافة الأنظمة العربية والأحزاب والأيدولوجيات، إلا أنه لم يكن من الطبيعي أن أن تتماهي قيادتها مع الحكام العرب وثقافتهم وسلوكهم وتطعن المقاومة الصاعدة، فمن مفارقات التاريخ الفلسطيني الصعبة أن انتفاضة الجيل الجديد من الشعب الفلسطيني التي انفجرت يأسا من تلك الثقافة العربية ورفضا لعجز قيادة المنظمة وقلبت الطاولة على الاحتلال، تأتي قيادة هذه المنظمة وتنجر للعبة اسرائيل المدمرة في أوسلو وتقبض ثمنا واهما للانتفاضة التي قلبت الموازين الدولية ضد الاحتلال.
إن وضع الشعب الفلسطيني له خصوصيته السياسية المختلفة عن أي شعب في أية دولة، والتلاعب أو القفز عن هذا الوضع ومستحقاته لا يحسب خطأ أو تقصيرا، وصدق من قال أن الخطأ او التقصير بحق الوطن يرقى الى الخيانة، فلسطين دولة محتلة كلها من البحر الى النهر، وليس أمام شعبها في هذه الحالة الا قيادة مقاومة شعبية تتراجع أمامها كل الأحزاب والأيدولوجيات والأشخاص والشخصيات، ولا مجال إلا لحكومات ثورية وقادة ثورة وساسة ثورة، ولا كلمة ولا زعامة ولا قيادة الا بإرادة الشعب وتحت سلطة الشعب، ولا مجال ولا منطق ولا شرعية لحكام وساسة تقليديين أمام وطن محتل، ولا شرعية شعبية لقيادة مقاومة من فصيل يحتكر الحقيقة وقرار المقاومة ورؤى الشعب على اتساع قاعدته.
الفلسطينيون وقضيتهم اليوم أمام مشهدين قادت اليهما أوسلو وختمتها أكبر مؤامرة على الشعب الفلسطيني وقضيته وهي فصل غزة عن الضفة الغربية، وإحداث الانقسام الفلسطيني عموديا وأفقيا، وهي مؤامرة خططت لها اسرائيل وواظبت على ترسيخها لتغييب الصوت والفعل الفلسطيني إزاء سيرورة صفقة التصفية التي وصلت اليوم لنهايتها، ولن يخرج الشعب الفلسطيني وقضيته من دوامة السقوط للقاع دون تجاوز المشهدين، ما هما وكيف الخروج منهما؟
ـ المشهد الأول: حاكم دكتاتور في الضفة وسجَّان على رأس سلطة أوسلو، يعلن انسلاخه عن المقاومة، وأصبح يدينها ويحاربها، منضما للعبة الحكام العرب الموالين لأمريكا والصهيونية من حيث المزاوجة بين تعاونه مع الاحتلال بكل أشكال التعاون على الأرض، وبين تصريحاته الرافضة والحركات الدبلوماسية والسياسية الشكلية، وهذا هو سلوكه وسلوك سلطته إزاء تصفية مكونات القضية الفلسطينية الواحدة تلو الأخر مع تمسكه بإفراغ منظمة التحرير والمجلس الوطني الفلسطيني وباقي المؤسسات من مضمونها، وبما يجعل من السكوت على بقاء سلطته كفر وطني وتواطؤ مكشوف وخيانة، ومن بقائها استسلام وموت.
ـ المشهد الثاني: الوضع في غزة، ويتمثل في حزب اسلامي نحترمه ممثلا بمنظمة حماس استطاع أن يكون جماهيريا وجهاديا لأن الفكرة الدينية عميقة في النفوس وتواجه تحديا صهيونيا بقالب يهودي وصليبي معلنين . لكن حماس هذه استجابت للإنقسام الفلسطيني وللصراع على السلطة وأعطتها الأولوية من واقع احتكار الحقيقة والقياده، وطوعت مقاومتها لهما تحت وطأة عجزها عن مواصلة الصمود بمعزل عن وحدة شعب وأراضي فلسطين، وما استقطابها لفصائل فلسطينية إلا خيارا إعلاميا وسياسيا مرحليا لتلك الفصائل مبنيا على كون حماس فصيلا واسعا يعتمد خيار المقاومة ويمتلك أرضا وسلطة، ووحده في مواجهة حقيقية ومؤثرة مع سلطة عباس الإستسلامية.
وأمام هذا الواقع في المشهدين فإن الانسان الفلسطيني في الضفة والقطاع يخضع الى أقسى أنواع الحرب على بناء الشخصية من خلال الضغوطات المعيشية والفقر والبطالة والتهميش وإشاعة المخدرات ووسائل اليأس للتأثير على حركته وتفكيره وسلم أولوياته. ولا يمكن أن يبقى الشعب الفلسطيني وقضيته رهنا بفتح وحماس وانقسامهما ولا بسلطة أسيرة للعمالة والتصفية.
فحماس تمثل المقاومة الفلسطينية الرئيسية اليوم ولكنها ليست أكبر من الشعب الفلسطيني ولا من القضية ولا هي ولا رؤاها بديلا عن كلية المقاومة الفلسطينية ورؤى الشعب الفلسطيني، ولا فتح ونضالها كان مجرد دور، وليس لمجموعة مستفيدة فيها أن تلغي فتح أم المقاومة وفكرتها، وتبيع القضية وتاريخ الشعب الفلسطيني النضالي ولا عباس عصي على قواعد فتح..
ليس أمام الشعب الفلسطيني إلا الانتفاضة على هذا الواقع أولا، وبناء شرعية فلسطينية واحدة، ولا بداية إلا من الضفة الغربية، فقواعد منظمة فتح مطالبة بالانتفاض على سلطة أوسلو وتنحيتها ومسك الأرض بدلا منها لبناء سلطة المقاومة، فلا سبيل ولا أمل للمصالحة الوطنية وإزالة الإنقسام مع وجود وبقاء نهجين متناقضين على الساحة، هما نهج الاستسلام ونهج المقاومة، ولا تحالف وطني أو إعادة اللحمة بين الأراضي الفلسطينية إلا على قاعدة المقاومة والتحرير، وعندها فقط يمكن للشعب الفلسطيني أن يعيد بناء منظمة التحرير والمجلس الوطني ويوحد خطابه أمام انظمة العرب ودول العالم وشعوبها ويفرض نفسه . وهذا هو الرد الوحيد على صفقة القرن وتفريغها من محتواها وتقزيم وعزل الأنظمة العربية التي تجرأت وتتجرأ على التدخل التصفوي للقضية الفلسطينية.
ولعل الوضع يتطلب الدعوة الى مؤتمر فلسطيني شعبي من قبل رموز وطنية فلسطينية مستقلة يضم الداخل والشتات، يعقد في عاصمة حرة، و يستدعى اليه استدعاءً قادة فتح وحماس وبقية الفصائل الفلسطينية لوضع النقاط على تلك الحروف، فالقضية خرجت من يد الهياكل القائمة باتجاه التصفية، ولكن ليس لها أن تخرج من حضن الشعب وقراره.
كانب وباحث عربي

Leave a Reply