عندما ننطق بعبارة “الملكية الدستورية” فإننا نتكلم عن مملكة وعن دستور وعن نظام حكم، والعبارة تؤشر على مفهومها عندما رُبط فيها الملك بالدستور، بمعنى أن الملك في تلك المملكة ليس مطلق السلطة ولا مطلق الحرية والفعل، وصلاحياته أو امتيازاته يحددها أو يقيدها الدستور او القانون، والكلام هذا لا ينفي وجود صلاحيات فعليه معينة ومحدده للملك بالدستور، مكتوبا كان أو مدونا بقوانين ولكنه يؤشر على على مرحله أولى من مراحل تطور الملكيه المطلقة إلى الملكية الدستورية يمارس فيها الملك صلاحيات فعلية بحكم القانون . وقد ابتدأت هذه المرحلة أو الدرجة من الملكية الدستورية نتيجة التطور السياسي في مملكات أوروبا وبالذات في انجلترا على إثر اصدار “الماغنا كارتا ” في بداية القرن القرن الثالث عشرم.
إلا أن هذه الصلاحيات الفعلية المحددة للملك، جرى تقليصها أو استبدالها فيما بعد بامتيازات وصلاحيات رمزيه واعتباريه للملك إثر مخاض سياسي وثورات شعبية في أوروبا لا سيما الثورة الفرنسية، ليستقر مفهوم الملكية الدستورية بشكله النهائي اعتبارا من القرن التاسع عشر وما تلاه حيث لم يعد فيها الملك مصدر السلطة بل الشعب مصدرها، ولم يعد يحكم عمليا بل يتمتع بمزايا بروتوكولية واعتبارية وكرمز لوحدة الأمة والدولة ورئيسا لها.
جاء هذا التطور استجابة لنهج الديمقراطية ومبدأ الشعب مصدر السلطة والذي اقتضى أن يكون النظام البرلماني ركنا أساسيا في الملكيات الدستورية هذه .وليكون البرلمان المنتخب شعبيا هو الذي يعبر عن ارادة وسلطة الشعب ومنه تخرج الحكومات لتمارس صلاحياتها باسم الملك ( رمزيا ) ولتكون الأحزاب في هذا النظام هي الرافعة للإرادة الشعبية واللعبة السياسية في الملكية الدستورية التي امتدت روحها ومفهومها الى الجمهوريات الديمقراطية ذات النظام الرئاسي.
النقطة التي تهمنا هنا أن الملكية الدستورية لا تتحقق بمجرد النص عليها أو على مكوناتها في دساتير الدول الملكية بل بمصداقية الإيمان بها وتطبيقها أو تفعيلها بأمانة، فالملوك تاريخيا لم يتخلوا عن سلطتهم المطلقة بسهولة أو تبرعا إلا ضمن حسابات ومحاذير يستبقون حدوثها، وقد مرت بعض الممالك في أسيا وأوروبا بالملكيات الدستورية المزيفة كاليابان وأيطاليا الفاشية قبل تحولها لجمهورية ولم يعد هذا الزيف موجودا الا في الدول العربية.
الأردن يوضع ضمن تصنيف الملكيات الدستورية باعتبار أن دستورة ينص على أن نظام الحكم نيابي ملكي وأن الشعب مصدر السلطات ويتضمن مواد ديمقراطية، بل وتنطوي بعض نصوصه على جدية المشرع في الملكية الدستورية عندما أخلت الملك من أي تبعة ومسؤولية ونصت على أن أوامره الخطية والشفوية لا تخلي الوزراء من مسئوليتهم حيث أن هذا ينسجم مع كون الملك لا يمتلك المسئولية والولاية العامة، بصرف النظر عن السلوك الإذعاني والمخالف للدستور الذي يرضخ له رؤساء الحكومات في تخليهم عن مسئولياتهم الدستورية .
فالنصوص المشار إليها في الدستور الأردني تنسجم مع الملكية الدستورية، إلا أن الأمر في الواقع والتطبيق والممارسة مختلفا ومغايرا تماما، مما يخرج الأردن عن تصنيف الملكيات الدستورية ويضعه ضمن الملكيات الاستبدادية أو الدكتاتورية، وقد سبق وأن ذكر الملك عبدالله الثاني بأنه يطمح للملكية الدستورية بعد خمسين عاما، أي أنه ترك الأمر لخلفه بمعنى أنه متمسك بالملكية الاستبداديه.
إذاً، الملكية الدستورية ليست غريبة على الدستور الأردني لكن تم الاعتداء على مضامين نصوصها ثم على نصوصها، حيث لم يصار الى التنفيذ والتطبيق الأمينن لتلك النصوص، وتبع ذلك مؤخرا الإمعان في تعديل وإضافة نصوص متعارضه وتتعارض مع روح ومنطوق الملكية الدستورية، والمربك هنا أن بعض التعديلات أو الإضافات على دستور عام 1952 لا سيما الأخيرة، لا تنطوي على مجرد ردة ديمقراطية بل جعلت من الدستور مشوها وبوجهين متناقضين، إذ بقيت المواد التي تنطوي على الملكية الدستورية وأضيفت اليها موادا تناقضها وتعطي الملك مسئوليات وصلاحيات جديدة متعارضه مع نصوص وروح الدستور، رغم أنه كان يمارسها خلافا للدستور، والأن يمارسها بنص دستوري متعارض، فدستورنا اليوم يعاني من تشوهات وتناقضات لا يفيد معها التعديل ولا بد من إعادة مراجعته مادة ماده في سياق شمولي وإعادة صياغته والالتزام به وتفعيله.
الحكم المطلق هو استبداد وفساد مطلق، ولا سلامة داخلية ولا خارجية للدولة وشعبها ولا إصلاح ممكن مع وجود هذا النهج، بل تراجُع وفشل وسقوط وهذا منطق علمي، وإن كنا في الأردن حريصين على الإصلاح الحقيقي وسلامة الدولة ونهضتها وجادين في ومواجهة التحديات الداخلية والخارجية، وكنا حريصين بنفس الوقت على بقاء النظام الملكي وعلى التمسك بالملك، وكان الملك متمسكا بملكة وبالمملكة، فليست هناك وسيلة أمامه وأمامنا سوى الإنتقال السلس الى الملكية الدستورية ضمن الأطر الديمقراطية التي تفعل المؤسسات الدستورية باتجاه دورها الدستوري.
إن الأردن اليوم يعيش المرحلة التي أصبح فيها النظام ومؤسساته عاجزا عن وقف مسار التراجع والسقوط في مختلف قطاعات الدولة العامة والخاصة وعاجزا عن مواجهة الفساد كونه أصبح مرتبطا بنهج الحكم القائم واستقراره الهش، وأصبحت الدولة تواجه تحديات البقاء والاستقلال . وبرز تيار شعبي أردني واع في الحراك ينادي بالملكية الدستورية كقاعدة أساسية في مملكة مستبدة، للإصلاح السياسي الجذري الذي يهيء لعملية الانتقال الديمقراطي واعادة بناء الدولة ومؤسساتها وسيادة القانون على الأسس التي تقوم عليها الدولة المدنية الحديثة والحكم الصالح.
ومن المعيقات للتغيير في الأردن نحو الملكية الدستورية أن رؤساء الحكومات وكبار المسئولين فيه هم العمود الفقري للسلطة المطلقة ولا يشكلون طبقة كرجال الكنيسة والبارونات في أوروبا كطبقة كانت تتعارض مصالحها معه في كثير من الأحيان وتمكنت عند نقطة ما من مواجهة سلطته االمطلقة والمستبدة وتحريك عملية التحول للملكية الدستورية، بل إن ما عندنا هم مجموعة فاسدين متنافسين ومصالحهم مرتبطة ببقاء النظام الاستبدادي وتشجيع الملك عليه في خيانة فاضحه للدولة وللملك معا . يأخذ الواحد منهم نصيبه عند انتهاء مهمته ويمشي ليقف في الصف الخلفي للدفاع عن النظام الذي يحمي مكتسباته غير القانونية .
إلا أن هناك أيضا البعض في الأردن من يخشى الملكية الدستورية من غير الفاسدين والمستفيدين، وتقوم خشيتهم على سببين، الأول هو التخوف لأسباب سكانية وسياسية يطغى فيها مكون على أخر يعتقد بأنه سيفقد بموجبها امتيازات مترتبة على أصالة ارتباطه بارض الدولة، بينما يتخوف البعض بالمقابل من تشكيل حالة سياسية تؤثر على الهوية الفلسطينية، أما السبب الثاني فهو تخوف البعض في ظل الظروف القائمة، من غياب الحضور الملكي الفعلي في الشأن العام، وبهذا فإن الأمر يحتاج لتوضيح.
فبالنسبة للسبب الأول لا يمكن لشخص يطالب بالإصلاح وإنقاذ الدولة وبالحياة الكريمة لشعب وأن يتحقق مطلبه مع بقاء سيستم النهج في مملكة غير دستورية، وليس منطقيا التضحية بالدولة وبالمجمل من أجل أسباب مَعيبة قانونيا وخلقيا، علما بأن هناك صيغا يمكن التوافق عليها، ولا من المنطق أن لا نتعض من نتائج سياسة العزل الوطني الأستعمارية التي جعلت من الشرق أردنيين مجرد عسكر وموظفين وغير مؤهلين فنيا وثقافة بالقدر الكافي لسوق العمل وبما أنتجته تلك السياسة من فقر وبطالة وفاسدين أسهموا في تدمير الدولة وتعريض القضية الفلسطينية للخطر
ومن ناحية أخرى، فلا خوف على الهوية الفلسطينية ولا منها، فالمشكلة الأساسية التي يواجهها أي فلسطيني في كل دولة يحمل جنسيتها في العالم هي في تمسكه الأسطوري بهويته الفلسطينية وقضيته وعدم التخلي عن وطن هو أقدس الأوطان، وكفانا فلا بديل عن العيش بضمير وبكرامة شعبا واحدا كما كنا عبر التاريخ وبلدا واحدا كما كنا قبل سايكس بيكو. فبعد إنقاذ الدولة الأردنية الذي لا يكون بلا ملكية دستورية، ووضع القضية الفلسطينية في مسارها الصحيح وقيام الدولة الفلسطينية على التراب الفلسطيني وتحقيق الحقوق غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني، سيكون الخيار للشعبين حرا بما يحقق مصلحتيهما.
وبالنسبة للسبب الثاني المتعلق بالخشية من غياب الحضور الملكي الفعلي في الشأن العام ضمن الملكية الدستورية فيمكن البدء بالعمل على تحقيقها بدرجتها الأولى بحيث يحتفظ الملك ببعض الصلاحيات الفعلية ويترك المجال لقيام حكومات منبثقة عن الارادة الشعبية تمتلك ولايتها العامة ضمن أطر دستورية ديمقراطية مصانة ومتمثلة في مجالس نواب وأحزاب حرتين.
كاتب وباحث عربي