كل ما أكتبه في هذا الموضوع هو من نصوص التوراة والعهد القديم (الكتاب المقدس كما هو بين ايدينا) وهو ما خرجَت عنه الصهيونية الاسرائيلية بحمولات زائدة اعتمدت عليها في دعواها بالقدس . نتلمس في هذا المقال الذي سيأتي بحلقتين لضيق المساحة، صلة اليهود التاريخية والعقدية بالقدس كما جاءت بالسيرة التوراتية وسردياتها باختصار شديد دون مناقشتها، والمقصود هنا بالتاريخية هي صلة اسلافهم بالمدينة قبل ظهور سيدنا موسى وديانته، وهم كما جاء بالسيرة سيدنا ابراهيم وولديه والأسباط من يعقوب والمقدر زمنهم بين القرن 19 ق م الى القرن 14 ق م. أما المقصود بالصلة العقدية فهي صلة أحفادهم بالمدينة منذ ظهور سيدنا موسى ورسالته الدينية ولنهاية السيرة التوراتية مذاكر أن العهد القديم كان المصدر الوحيد المحتكر للتاريخ قبل ثورة الاستكشافات وظهور علم الأثار .
بالنسبة للصلة التاريخية للفترة المشار اليها فلم تُذكر فيها القدس بالسيرة التوراتية إطلاقا سوى مرة واحدة في سياق لا يخص المدينة بل يخص ملكها وزعيمها الروحي “ملكي صادق”، وجاء هذا الذكر للقدس من خلال الفقرة 18 من الاصحاح 14 من سفر التكوين وذلك في اطار الحديث عن عودة سيدنا ابراهيم من مصر الى فلسطين واسترداده أموال ابن أخيه لوط وذهابه للقدس لدفع ضريبة العشر لملكها وزعيمها الروحي “ملكي صادق ” الذي بدوره بارك سيدنا ابراهيم . وهذا ينطوي على ان القدس كانت مركزا سياسيا ودينيا معترفا به للكنعانيين، وأن كتبة التوراة في القرن السادس ق م أرجعوا معرفتهم بالمدينة الى القرن التاسع عشر كمدينة كنعانية باسم اورشليم الكنعاني . كما أن ابراهيم عندما دخل فلسطين لأول مرة لم تكن القدس في حسابه بل توجه الى نابلس والخليل ثم الى بلوطة موزه حيث هناك حسب السيرة ظهر له الرب وأعطاه الوعد . أما في سيرة ولديه اسماعيل واسحق ومن بعدهم يعقوب والأسباط فلم تتطرق السيرة التوراتية لذكر القدس اطلاقا لا على ألسنتهم ولا ألسنة غيرهم ولم يزورونها أو يسكنوها أو يدفنوا بها ..
ثم جاءت مرحلة سيدنا موسى . وفيها، فإن السيرة التوراتية لم تذكر القدس خلال حياته في مصر ولا خلال نبوته ورحلته لفلسطين التي لم يدخلها .. بل جاءت فيها نصوص توراتية عقدية على لسان سيدنا موسى يذكر فيها أماكن مقدسة في فلسطين لم تكن القدس منها . وجاء هذا في الوصيتين التي اوصى بهما يشوع، وتنفيذ يشوع لهما حسب النص التوراتي . الأولى هي في الفقرات من 30 – 32 من الاصحاح 8 في سفر يشوع والتي تنص على تنفيذ وصيته ببناء مذبح للرب إله اسرائيل في جبل عيبال من الحجارة وأن يكتبوا عليها نسخة توراة موسى . والثانيه في الفقرة 33 من نفس السفر والاصحاح بتنفيذ وصيته بوقوف جميع اسرائيل وشيوخهم وعرفائهم وقضاتهم على جانبي تابوت الرب وكهنة اللاويين الذين يحملونه وأن تكون وجهة او قبلة الرجال الذين يقومون بذلك باتجاه جرزيم وعيبال لأجل البركه . ولم يذكر القدس . وحضرت وفاته وجاء يوشع..
كانت فترة يشوع تمثل السيرة التوراتية لغزو فلسطين . وهو الذي قال بنص الفقرات 7، 8، 9 من الاصحاح 7 من سفر يشوع ما نصه ” وقال يشوع يا سيد الرب لماذا عبَّرت هذا الشعب الأردن تعبيرا لكي تدفعنا الى يد الأموريين ليبيدونا . ليتنا ارتضينا وسكنا في عبر الأردن، أسألك ماذا أقول بعدما حول اسرائيل قفاه أمام أعدائه فيسمع الكنعانيون وسكان الارض ويحيطون بنا ويقرضون اسمنا من الأرض ” انتهى (علما بأن الاموريين اسم شامل للعرب السباقين في الخروج من الجزيرة الى ما بين النهرين، والكنعانيون سكان فلسطين من قبائلهم كما اليبوسيون من الكنعانيين ) . وقد بدأت السيرة التوراتية في السفر بغزو اريحا وانتهاء بالادعاء باحتلال معظم شمال وجنوب فلسطين ..
. ولدينا هنا ثلاثة استنتاجات . الأول، أن الاحتلالات المدعى بها امتدت من مشارف صيدون وحرمون شمالا الى غزة والخليل واحتلالها تخطى القدس دون احتلالها، ودون ان تكون ضمن اهتماماتهم أو قدرتهم . الثاني، أن ذكر القدس جاء في هذا السفر للمرة الثانية بعد حوالي ستماية عام على ذكره السابق في سفر التكوين من خلال النص ” ” فلما سمع أدوني صادق ملك اورشليم ان يشوع أخذ عاي وحرمها كما فعل بأريحا وملكها ……..ارسل الى هومام ملك حبرون وفرام ملك برموت ويافيع ملك ياخيش ودبير ملك عجلون …..فاجتمع ملوك الأموريين الخمسة ونزلو على جبعون وحاربوها “. الملاحظة الثالثه أنه بعد احتلال شمال وجنوب فلسطين وتوزيعها غنيمة على افخاذ بني اسرائيل كما كما جاء بالسيرة لم يشمل التوزيع مدينة القدس . حيث تقول الفقره 63 في الاصحاح 15 من سفر يشوع ما نصه ” أما البوسيون الساكنون في اورشليم فلم يقدر بني يهوذا على طردهم. .
وتنتقل السيرة التوراتية إلى عهد القضاه، وفيه جاء ذكر كلمة القدس بفترة متأخرة منه كمدينة غريبة . وذلك في سياق قصة معترضة وردت في الاصحاح 19 من سفر القضاه لرجل لاوي من جبل افرايم وزوجته وغلامه وهما في طريق عودتهما الى جبل افرايم حيث اغربت الشمس عندما وصلوا مقابل القدس وحينها طلب الغلام من سيده أن يميلا للقدس للنوم فيها ورفض الرجل ذلك باعتبارها مدينه غربية وليس فيها أحد من بنى إسرائيل والنص كما جاء في الفقرات 12،11،10 من الإصحاح هو “فلم يرد الرجل أن يبيت بل قام وذهب وجاء إلى مقابل يبوس هي أورشليم ….. وفيما هم عند يبوس والنهار قد انحدر قال الغلام لسيده تعال نميل إلى مدينه اليبوسيين هذه ونبيت فيها فقال له سيده لا نميل إلى مدينه غربية حيث ليس أحد من بني إسرائيل هنا، لنعبر إلى جبعه” انتهى . وتستمر النصوص التوراتية تتحدث عن حروب مع الفلسطينيين واحتلال للمدن مع استمرار غياب القدس عنها..
وباختصار إن غياب القدس في الاسفار الخمسة العقدية واضح ولم يكن للمدينة فيها أي صفة عقدية لهم ولا في اي من الفترات المتقدمة والمتأخرة، فالرب ظهر وخاطب انبياءه وملوكه وسكن في شيلوه وبيت ايل وشكيم والجلجال والمحلة ومختلف المواقع إلا القدس . ولم تكن القدس من مدن الملجأ المقدسة حيث جاء في الفقرات من 1 – 9 في الاصحاح 20 من سفر يشوع ما نصه ” كلم بني اسرائيل اجعلوا لانفسكم مدن الملجأ كما كلمتكم …… فقدسوا قادش في الجليل في جبل نفتالي وشكيم في حبل افرايم وقرية اربع في حبرون في جبل يهوذا ووو…” ولا ذكر للقدس . وفي الفقرة 12 من الاصحاح جاء على لسان الرب ما نصه ” اذهبوا الى موضعي الذي في شيلوه الذي اسكنت فيه اسمي أولا ” وشيلوه تقع شمال بيت ايل . ولم يدفن في القدس أي نبي أو ملك من بني اسرائيل وحت عظام يوسف دفنت في نابلس والأمثله أضعاف هذا في غياب القدس .. .
نعود للسياق، الى عهد شاول والمملكة في الهضاب الشمالية التي دعتها النصوص التوراتية مملكة اسرائيل والتاريخ يسميها بيت عومري . ومن ثم لاحقا قيام الكيان القبلي الأخر في الهضاب الجنوبية التي تقع القدس على أحد هضابها ودعيت فيما بعد مملكة يهوذا، فهذا مرتبط بالسيرة التوراتية بعهد داوود لاحقا،ولم تكن القدس من ضمن أي منهما بل بقيت مملكه يحكمها اليبوسيون city- state بين الكيانين اللذين تتحدث عنهما السيرة .
ففي فترة عهد داود وسليمان ظهر الاهتمام بالقدس لأول مرة مرتبطا بسيرة داود كحاجة جغرافية\ سياسة نشأت عندما أنشأ بمساعدة الفلسطينيين الكيان القبلي باسم يهوذا وملَك عليه، ومن ثم توحُد الكيانين .. (ونحن هنا نتكلم عن نصوص سيرة توراتية وليس عن واقع تاريخي، وعندما أذكر كلمة فلسطينين فذلك كما جاء بالنص ) . وتشير النصوص التوراتية بهذا إلى بقاء القدس كمملكة بيد اليبوسيين رغم أنها تقع في وسط الكيانين المزعومين الموحدين . ولم يكن داوود يفكر باحتلالها قبل توحيدهما، ولم يكن يجرؤ على ذلك استنادا للنصوص التوراتية،. مذكرا بأننا نتكلم عن كيانات اجتماعية لم يكن لها سيادة على الارض، بل السيادة للامبراطوريات المتعاقبة على حكم المنطقة .
إلا أنه بعد توحيد الكيانين تحت زعامتة مع بقاء مملكة القدس بينهما كفاصل جعل من وحدة الكيانين غير متصلة وهشة في ظروف داخلية غير مواتيه لداوود، إضافة لتعرض حبرون لغزو قبائل سيناء ومن هنا بدأ داوود بالتفكير باحتلالها ولكنه كان يعلم صعوبة ذلك وحاول وفشل، فاخذ أي داوود حصن صهبون خارج القدس وسورها وسُمي الحصن بنص التوراة بمدينة داوود . ثم قفزت السيرة التوراتية للقول بانه دخل القدس وتصاهر مع اليبوسيين وشاركوه في ادارتها دون ذكر الكيفية . لكنه لم يحتل القدس بعد . ثم استطردت السيرة قائلة بان ابشلوم ابن داوود وشقيق سليمان من ام ثانية عزل ابيه واتخذ الخليل مركزا . ثم حارب الاب ابنه وعاد للقدس ..
أما حصن أو قلعة صهيون citadel of zion وكما جاء بنص السيرة هو حصن على رابية قريبة من القدس وخارج السور . بناه الكنعانيون اليبوسيون وأسموه . ويقول علماء الأثار ومنهم Albright W. Foxwell أن اليبوسيين شيدوا المدينة وشيدوا حصنا على جبل بجانبها اسمه جبل صهيون . وليس في التوراة أو التاريخ ما يشير لبنائهم الحصن . بل أن السيرة التوراتية أطلقت على التلة والحصن اسم ” مدينة داوود ” وهي ليست مدينة القدس توراتيا . والفقرات من 6 – 10 من الاصحاح الخامس من سفر صموئيل الثاني توضح ذلك ونصها هو ” وذهب الملك ورجاله الى اورشليم الى اليبوسيين فكلموا داوود قائلين لا تدخل الى هنا ما لم تنزع العميان والعرج أي لا يدخل داوود الى هنا، وأخذ داوود حصن صهيون هي مدينة داوود وأقام في الحصن وسماه مدينة داوود وبنى داوود مستديرا من القلعة فداخلا. ” انتهى النص .
وحيث أن القدس دخلت في اهتمام السيرة التوارتية فيما بعد بدعوى عقدية مرتبطه بتابوت العهد وبالهيكل وبعمق المعنى لفك المسيحية للغز “ملكي صادق” ومباركته لابراهيم في القدس .فسيكون كل هذا ضمن القسم الثاني من المقال حيث سنستنتج استبعاد أي خصوصية للقدس في العقيدة التوراتية ليصبح الهدف سياسيا.
كاتب وباحث عربي