باستثناء المعصومين والحالات الشاذة، فإن كيمياء جسم الإنسان حاكما كان أو عاديا تقضي لتكون مصلحته الشخصية كما يراها هي التي توجهه في خياراته وأفعاله، ولا غبار في ذلك، ولكن الغبار التي تشكل جرما أخلاقيا اجتماعيا سياسيا هي عندما لا تكون تلك الخيارات الشخصية ملتقية أو متفقة مع القيم والمصلحة العامة وحقوق الأخرين، والوطن هنا هو الأهم في الأخرين، فالمصلحة الشخصية التي لا تلتقي مع المصلحة العامة أو لا تتأخر عنها في لحظة ما هي خيانة، وإذا كان الإنسان المعني بها في موقع المسئولية والقرار فهي خيانة مدمرة.
ما يحدث في الأردن لا يحدث في أية دولة بهذه الطريقة حتى لو كان مرسوم لها عدم البقاء، ولا أعتقد بأن حاكما يسكت عما يُفعل ببلده الآمن المستقر كما يجري في الأردن كدولة يتمسك شعبها بحاكمه، وحاكمه يستثمر هذا التمسك في أخذ الأمان لعدم التغيير ويمضي . وهذا بالنسبة للأردن ما كان ليكون إلا في سياق موازنة الملك بين قوتين بديهيتين أمامه من شأنهما التأثير على قراره الشخصي أو على ارادته السياسية، الأولى هو المعسكر الصهيوني، والقوة الأخرى هي الشعب وضغوطاته.
وبهذا، رحم الله الملك حسين ففي أسوأ حالته كان منتميا لهذه الدولة ولشعبها وملتزما بعبارة ” دق عالحافر ودقه عالمسمار” ويتعامل مع معارضيه بجدية واحترام، ومع معاونيه وأصحاب الخبرة بتفهم وتقدير من موقع الصدق وحسن النية للتشاور في أمر خارجي أو داخلي ملح كلما دعت الحاجة، واجتماعاته برجالات الحكم والتأثير السابقين لم تكن مزاجية ولا لماما من أجل خدمة ظرف سياسي شخصي له، ولا خوفا من تحول احتجاجات غير منظمة في الشارع الى عمل سياسي منظم على أيدي أكثر وعيا وقدرة، ولا لحشد الفزعات وإسكات الأفواه وامتصاص الغضب عندما تواجه سياساته رفضا شعبيا و يشتد التذمر ويخرج الخطاب الداخلي عن المألوف . أما في أحسن حالاته فقد كان يحاول الخروج من التزامات النظام التاريخية والانقلاب على الدور الوظيفي للدولة واستقلال قرارها السيادي .
نقفز للحاضر، فتركيع الدولة وإعادة صياغتها من الصفر هو المطلوب حاليا في هذه المرحلة، ولا بد من تركيع الشعب لسلاسة الوصول لهذا المطلوب في إطار متطلبات الدور الوظيفي لهذه الدولة لحساب المشروع الصهيوني والذي يمر حاليا بمرحلة تصفية مكونات الملف الفلسطيني، ولذلك فإن الدولة هذه بسلطاتها وأجهزتها يجري تحويلها لمؤسسات تجهيل وتنفيذ، بالسيطرة عليها بواسطة وكلاء يعملون بعقلية العصابة ونظامها بمساحة لا حدود لها من خيانة الضمير والوطن، ولا عمل لديهم أو مطلوب منهم الا التنفيذ مقابل ما ملكت أيامانهم، فهم يمثلون سلطة القطاع العام التي تحولت لشركة وافدة فاسدة باعت كل الأصول وتعمل لافتراس القطاع الخاص حاليا بمشاركة أمانة العاصمة التي تصدر قراراتِ وأنظمة وتعليمات التشليح والهدم والتطفيش بلا رقيب ولا حسيب.
وبهذا لا نستطيع أن نصدق عدم علم صاحب القرار بمسلسل إغلاق بيوتات القطاع الخاص الكبيرة والصغيرة (باستثناء البنوك) من شركات ومصانع ومعامل ومطاعم ومحال تجارية وتوقف قطاع البناء والاسكان والشركات الهندسية، وحتى قطاع عيادات الاطباء وأزمة المستشفيات الخاصة، وهروب الاستثمارات و راس المال للخارج وتناقص التحويلات الخارجية وتنامي البطالة وتهالك المواطنين على الهجرة . وما زال النظام مع هذا التراجع يواجه الاردنيين في كل مناسبة بتكرار نفس الخطاب من العمومية والغموض وجلب الاستثمارات لاستيعاب غضب الشعب في مرحلة التدمير وهو يعلم أن الأولى هو المحافظة على الاستثمارات القائمة، ولا يكون هذا إلا مرسوم ومطلوب لتدمير القطاع الخاص كي يطبق التفاف الحبل على عنق الدولة والمواطن بموجب برنامج أجنبي يُخضع الدولة لدورها الوظيفي في مرحلته الأخيرة التي فيها تنتحر.
من الواضح أن الدولة بشعبها وسيادتها ليست في مأمن، لكن السلطة تُظهر نفسها للشعب وللغير أنها في مأمن بينما سلوكها يُظهر غير ذلك، وهذا شأنها، الشعب ما زال لا يعلم طبيعة ما يجري ولا أن الدولة للعدو الخارجي هي برسم التصفية، وما زالت الأغلبية تعتقد بأن الملك خارج اللعبة وفي هذا جزء من الحقيقة لا كلها . فالأصوات الشعبية في الحراك ووسائل التواصل الاجتماعي ما زالت في مسار خاطئ، وتضع العربة أمام الحصان وخطابها مرتبط ومحصور بضبق العيش وألأعباء الضريبية والبطالة والفساد وتطالب الملك ليساعدها في هذا النطاق لتعيش يومها دون اعتبار للبعد السياسي المسئول عن الحالة وبقائها، ودون التعاطي مع ما يجري على أنه في سياق مخطط دُمغ بختم النظام، ومن الواضح أن الغمز على الملك ببعض العبارات الاتهامية لا يخرج عن حدود هذا النطاق، شعب مسكين ومأسور لقبليته فاللازمة في خطابه ما زالت عند عوض الله ومجدي الياسين والكردي- كروت فراره – بينما رؤساء الفساد السياسي والمالي والإداري هم من زعماء عشائرهم الذين استُخدموا في التأسيس لنهج الفساد وإفقار أهليهم ووصول الدولة لما وصلت اليه.
أما النخب الرسمية المتقاعدة بالاضافة للنخب الوطنية وكلها في بحبوحة مالية فإنها اليوم تعتلي العربة التي تسير بالمقلوب، وتمتهن الورقية بعملها الوطني .لا عليهم من ذلك، فلم تبق كلمة الا وصلت لأسماع صاحب القرار حتى عاد الكلام معزوفة وملهاة لإبراء الذمة الشخصية لهم وامتصاص غضب الشعب، وعادت المعزوفة ذاتها لا تعني للملك في الواقع شيئا، ولا مكان مخصص لها حتى في سلة المهملات . إلا أن الأمل معقود على شرفائها في تنظيم معارضة وطنية تستطيع تحويل صفرية وزن الشعب الى ثقل ضاغط إنقاذي
صحيح أن الأزمة في الأردن اقتصادية اجتماعية وفقر وبطاله وفساد، وهي أخطر الأزمات في أي وحدة اجتماعية أو سياسية لأنها أزمة كافره دونها ترخص الأرواح ويرخص القتل والتدمير والفوضى، والآرانب تصبح وحوشا كاسره، فالمخططون يعرفون شغلهم، إلا أن الباعث لهذه الأزمة ومحركها ومفتعلها هو سبب سياسي نحو نتيجة سياسية، فأزمتنا الحقيقية في الأردن هي سياسية، والحل لا يكون إلا سياسيا، والملك ما زال عمليا راضخا للضغوط المعادية وبرامجها في الداخل الأردني ويأخذ دور تسيير الأعمال بإرادته، إلا أنه كان قادرا وما زال ألف قادر بشعبه معه على كسر الضغوطات وتغيير المسار، وهذا لم يحدث لترتد الكرة لملعب الشعب، لكن الشعب أصبح مع طول حقبة التدجين والتجهيل السياسي مفتقدا لهويته الوطنية الجامعة وبلا وزن أمام الملك أو أمام المعسكر الصهيوني، والشعب لهذه اللحظة ما زال فاشلا بوزنه وزن الريشة في تحقيق الضغط المطلوب على صاحب القرار بما يكسر الضغوطات الصهيونية.
الفرصة أمام الشعب للخلاص والتغيير لا تكون إلا بتفعيل وزنه، ولا تفعيل آمن لوزنه الا في الشارع في إطار منظم وواع بخطاب سياسي لا يقل ولا يتجاوز مطلب تغيير النهج السياسي بكل مستلزماته الخارجية والداخلية، وما لم نتمكن من إفشال صفقة التصفية من جانبنا في الأردن سيستمر الضحك على الذقون ويستمر التدهور في الأردن الى مقاسات أفظع بكثير دون نهاية لها، نحن لا نقبل من نظامنا مجرد القول برفض صفقة التصفية والتمسك بالثوابت، فالكلام كهذا ما لم تسنده قوة التفعيل المرتبطة بالعمل على تهيئة الأسباب هو بمثابة خداع مكشوف لا يلبث وأن يسقط عند أول مواجهة.
كاتب وباحث عربي