مع كل حدث مبيت في المنطقة تُطل علينا أخبار تناطح مفتعل على وصاية وهمية على مقدسات القدس، بينما لا يوجد عاقل يستوعب هذا التناطح على سدانة مقدسات محتلة بدلا من الحديث عن تحريرها واسترداد السيادة عليها . وهذا التناطح بالنسبة لإسرائيل يخدمها في إضفاء الشرعية على الاحتلال وتكريس التطبيع الشعبي عليه ، وبالنسبة للحكام العرب لا يكون إلا في سياق التناطح والتنافس على أدوار العمالة والخيانه، وبالطبع لا نسأل أين سلطة أوسلو من القدس.
تزامنت بداية مسلسل هذا التناطح، مع طرح أمريكا للغز التصفية المحلول، وعنوانه للحكام صفقة مقابل حماية الكراسي، وللشعوب مليارات الاستثمارات الواهمة مقابل الأوطان، ووعود المليارات والرخاء سبق وصُرفت مع معاهدات السلام مع الاحتلال، لكن ما تم قبضه هو الفقر والافلاس والاذلال، ونحن في الأردن معنيين بهذا التناطح الذي تستخدم فيه القدس في لعبة سمجه، وأكاد أجزم أن المادة المعنية في معاهدة وادي عربة التي تعطي للأردن دورا خاصا في الأماكن الاسلامية المقدسة وحتى في مفاوضات الوضع النهائي، كان ملعوبا إسرائيليا تفَهمه عرفات في حينه، والملاحظة هنا أن النص يخص الأردن وليس العائلة الهاشمية ، فأين هذا الاردن اليوم؟
من الضروري أن نفهم سبب انكماش سياسة النظام الاردني إزاء القضية الفلسطينية والمعَبر عنه بمعاهدة وادي عربة . فالملك حسين عندما أبرم المعاهدة كما جاءت فإنما فعل ذلك من واقع يأس مطبق بعد مخاض عشرات السنين من المفاوضات السرية مع الإسرائيليين عرض فيها مختلف العروضات والمغريات والتنازلات من أجل استعادة الضفة الغربية أو جزءا منها إلا أنه فشل من واقع رفض اسرائيلي استراتيجي، ومن هنا انحسر هدف الملك في النجاة بمملكته كأولوية تراجعت معها أولويات قومية والتزامات وطموحات . والدبلوماسي المتمرس عنما يقرأ المعاهده يعرف أنها اتفاقية صداقة وتعاون من واقع استسلامي سيلاحق الأردن وليست معاهدة.
وبعد رحيل الملك حسين بإرثه الذي انتهى اليه أصبحت المملكة تتعرض لأخطار وجودية من الداخل والخارج على مذبح الاستخدام، وتفك هذه الأخطار للفلسطينيين والأردنيين لغز الجانب الأساسي من طبيعة صفقة التصفية،
فمن يمشي في شوارع عمان يقول ما شاء الله على هذا الأمن والاستقرار، وينسى أن مريض السرطان في بدايته يرى نفسه ويراه الأخرون متماسكا وبعافية بينما الواقع أنه يتآكل من الداخل وأنها مسألة وقت، فالأمر اليوم مختلف جدا في الأردن ولا يتوقف عند وضعه الاقتصادي وحالة الخزينة والشعب ولا عند تبخر كل ما أنجز ماديا وسياسيا وقيميا وإحلال عكسه مكانه.
بل المسألة هي في حقيقة لا يعرفها الا اصحاب العلاقة ومن يتحرى أو تُكتب له تجربة مع المؤسسة الرسمية، وهي أن الدولة بمعناها وبترابط مكوناتها وبتقاليدها المستقرة، لم تعد موجوده على الارض ولا في مؤسسات سلطاتها وأجهزتها، وما نراه بالعين المجردة ليس أكثر من نموذج ورقي لواقع مغاير ..
وبهذا فالطرفة المعبرة ، أن مواطنا سعوديا قال لزميله بأن القدس محتلة ، فرد عليه زميله مستهجنا الخبر ومتسائلا ” وفهد يدري؟”، وإذا أسقطنا هذا الحديث على اردنيين اثنين فأقول للسائل إن كنت تتكلم سياسة خارجية فنعم، فهد يدري. وإن كنت تتكلم عن الشأن الداخلي فهو يدري ولا يدري . فلا منصب اليوم في الدولة عاد منصبا عاما . ولا مسئول عاد مسئولا إلا عن نفسه ومصالحه . ولا دستور ولا قانون إلا للاستخدام الإنتقائي أو السلبي . والدوائر الحكومية إقطاعيات فيها العبيد لصوص ومتعاونون مع كل غزاة المال والسياسة والادارة، بل ومع أصحاب الخاوات، وتعمل بطريقة العصابات يديرها فاسدون عابرون ومحليون.
وبعد هذا يخرج علينا المحللون المسيسون في كل مناسبة ليتكلموا عن صمود الأردن أمام الضغوطات والتزامه بالثوابت ورفض صفقة التصفية ، بل أن الملك ما زال يتكلم عن حل الدولتين وعن أوراق نقاشية وتنمية سياسية وجلب الاستثمارات وطلب المعونات التي لا ندري لمن.
لقد استمع الملك في لقائه الأخير مع رؤساء الوزارات السابقين الى مداخلات عما يجري في الأردن بعضها صريح وشفاف مع الأمثلة الحية من أحد الرؤساء وربما يكون الاستاذ أحمد عبيدات والذي تفاجأ الكثيرون بدعوته وبحضوره ، إلا أن تجاوب الملك مع حديثه وحديث غيره حسب شهادة البعض كان وكأنه يستمع عن وضع في دولة أخرى لا تعنيه ، وأن الاجتماع هو الغايه . وهذا ما يطرح تساؤلات إن كان الملك يتطلع للداخل بنظارات أجنبية لا محلية ،ويستند لجدار أجنبي لا اردني ، أو أنه يقدم نفسه في خطابه وعمله للعالم الخارجي لا للأردن والاردنين . نحن فعلا ضائعون ونسير للمجهول ولا نعلم من المسئول الحقيقي ولا مع من نتحدث . ليس أمامنا مسئول سوى الملك.
لا إصلاح ممكن فالطامة عامة ، والملك ينظر ويتعامل مع الخارج بعيدا عما يجري في الداخل وتاركا البلد خلفه لمراكز قوة ورويبضات . ولا تغيير ممكن الا بتغيير النهج السياسي والذي بسيرورته دُمرت المنجزات وأحلام الصغار وخواتيم الكبار وفتحت الأبواب لإفساد جهاز الدولة ونهب مواردها وبيع مقدراتها الأساسية وإفلاس وتدمير القطاع الخاص وقطع كل ابواب الرزق أمام المواطنين لإخضاعهم وتحويلهم الى عبيد في الآلة السياسية الصهيونية .
فالوطن وعامة لشعب وشرفاؤه في الأردن هم الذبيح على منسف جماعي على شرف الصهيونية وهدفها الأكبر .وليس هناك أي بديل وطني موجود أو قادر على حكم هذا البلد لإحداث التغيير المطلوب ، ومن هنا فإن التمسك بالملك الذي ربما يَعتقد بأنه يستند الى جدار أجنبي يحسبه فولاذي هو الخيار الذي سيبقى يفرض نفسه لأن البديل عنه هو التبكير بالفوضى والقتل والدمار والدماء والانحلال في مشهد يتفرج عليه العدو الصهيو أمريكي ليقرر ساعة التدخل أو دعوته للتدخل . ومن هنا يطرح السؤال ما العمل الآمن الموصل للصواب وأقول: إن الأردن بمثل هذا الظرف الذي تتهزأ فيه الدولة وتنقلب على نفسها وتتآكل أمام مستقبل أكثر تهديدا وغموضا، وفي غياب المرجعية وانسحاب الملك من المشهد، أقول بمثل هذا الظرف تسقط كل الثقافة السياسية والاجتماعية والسلوكية التي اكتسبها الاردنيون كذبا وخداعا، وتسقط فيه الهويات الفرعية ومعها كان وكنا ومفاعيلها تحت قدم الوطن وعظم المسئولية ، ليصبح الشعار المطلوب هو الوعي على المرحلة . ولا نجاة إلا في بلورة هوية سياسية وطنية جامعة لا مفرقه تسحق الأسماء كلها والأنا كلها وشهادات الميلاد وبطاقاتها الشخصية وكل التاريخ المزيف الذي أنتج خطابات الذل والاستجداء أمام الديوان لشعب عزيز كان يغزو عندما يجوع ولا يتوسل.
نريدها هوية تتشكل فيها مرجعية وطنية عريضة لشعب يفتقدها ولدولة سائبه، باتجاه الضغط السياسي على الملك من أجل التغيير الحقيقي من ناحية ولإفهام الصهيو أمريكي وكل عبيده أن هناك شعبا لهذا الوطن لا يمكن تجاوزه.
كاتب وباحث عربي