ليس العَوَص ولا الرعب في أنَّ الأردن اليوم دولة تحاصرها الأزمات الداخلية وتعصف بها. لكن المرعب في الأمر أن ما يجري بالمقابل في مؤسساتها الرسمية ومن مسئوليها من سلوكيات ادارية ومالية واقتصادية أصبح مرتبطا باستغلالهم الوضع القائم المأزوم وليس بمعالجته، وإذا افترضنا بأنهم ليسوا شركاء مختارين ولا مأمورين، فهل تشكلت لديهم القناعة كمؤلفة قلوبهم بأن وقف النزيف ليس هدفا لأصحاب الأمر، سواء كان لانعدام الارادة السياسية أو بسبب انفراط عقد الدولة والتباس المسئولية؟ وضعنا اليوم في الأردن ليس صدفة ولا من نقص في الخبرات ولا نتيجة أخطاء، بل هو من تخطيط جهنمي. فسوء الادارة وجرائمها في الأردن لا تعيشه اليمن ولا السودان ولا الصومال، وهزالة الحكم وضياع السلطان يذكرنا بالخليفة في أواخر العهد العباسي.
لا سيء إلا وهناك أسوأ. فالدكتاتورية غير الوطنية على سؤئها أصبحنا نفتقدها، فهي تعني على الأقل بأن هناك دولة وسلامة وجودها هدف يهم الدكتاتور، فلمْ يعد في الأردن اليوم للسلطة المركزية وجود، والقبضة الدكتاتورية توزعت، ومن الطبيعي أن تتفكك السلطة في هذه الحالة لمراكز قوة بأيدي ضعفاء وأقوياء عددها هو عدد المؤسسات، مفهوم الدولة عندما يسقط من ذهنية النظام تصبح السيطرة عليها مستحيله ويصبح الفساد فرصة للكبار وحاجة للصغار. فالدولة اليوم تبدو انتقالية، ويجري تصفية إرثها ومؤسساتها وممتلكاتها وصولا لتصفية القبول الشعبي بها. والمصفي هو كارتل عمان – واشنطن – تل أبيب، والهدف النهائي سياسي. وبنفس الوقت يتم التأسيس لمرحلة يعتقدها البعض من المسئولين قادمة. وليس مهماً أن نعرف إذا كان هذا البعض يعتقد بأنه سيكون جزءا من تلك المرحلة القادمه أو أنه عابر يفتك مع الفاتكين.
والسؤال المهم هو، هل يخططون ليتم الانتقال سلميا أم عبر فوضى. مفردات المشهد الرسمي تَخلط الأوراق وتتخبط وترتجل القرارات والتصريحات والتغريدات في غياب غير معهود للمنطق، وتقود للفوضى في بيئة أردنية تمتلك كل وسائلها المادية والمعنوية.
انتهت حرب التجويع التي شنها التحالف الصهيو- أمريكي- سعودي لعقود على الدولة وخزينتها، انتهت باستسلام النظام وبدأت منذ عقدين حملة نزع السيادة والملكية والإفلاس وتجويع الشعب. فنحن اليوم أمام شعب جائع لأساسيات الحياة ودولة أصبحت عاجزة تماما عن تلبيتها حتى لو أرادت ذلك. والتطمينات والوعود وحلول المشاغلة تخدم صاحبها كخدمة القشة للغريق. لا حلول ممكنه في دولة سائبة إداريا وخاوية خزينتها وقرارها مرهون. فماذا يتوقع أبطال المشهد من قمة هرمه إلى أدنى مسئول. لقد قالت لي جدتي في زمن الحكمة المقبور، لا يغرنك جائع يتذلل ويمد يده،إنه إن لم يحصل على مبتغاه سيصفع بنفس اليد ذاك الذي مد له يده.
جموع الجياع في الاردن يعلمون فقر الخزينة ولكنهم يعلمون أن هناك موازنة وهناك مِنحا وأموالا وأتاوات وخوات للفاسدين والفساد، وأنهم أصحاب حق وأولى بشيء منها للبقاء. هناك قهر ويأس وبوادر لثورة جياع لا ترحم شريفا ولا خائنا، لا مجرما ولا بريئا، ولا سائلا ولا مسئولا. فوضى تَسقط معها كل القيم ولا تعود العين ترى فرقا بين مسجد وأهله وبين وملهى ورواده، ومن رمادها ينبلج دون تخطيط مسبق نظام جديد محوره المواطن وكل حقوقه، وسياسة خارجية مرجعيتها الحاجات الوطنية. فهل هناك نفحة من عقل أو حكمة تقول أننا بحاجة للتدمير من أجل التغيير ؟ هذا السؤال موجها للملك ولكل حر شريف قادر على أن يفعل شيئا إنقاذيا. ولا يَقبل عاقل أن يوجه للجياع ولا للمهمشين والمحرومين والمقهورين.
الأردن ليس بخير، وهذا ليس لما يلم به، فالمصائب تواجه بالعمل، والنتائج تحددها المقدمات. الأردن ليس بخير وهذا ليس لمجرد أن نظامنا أو قيادتنا تحتكر الرؤية وتتنكر للواقع ولا تسمع ولا ترى ولا تفعل إلا ما تريد أو ما يراد لها في هروب صارخ من الواقع والمسئولية أو في تغييب قاهر، بل أن الأردن ليس بخير لأن نظامنا فوق كل هذا يعمل بالاتجاه المعاكس للمطلوب داخليا وينتصر للمسئولين عما نحن فيه لا للشعب ولا للدوله. ليصبح هو المشكلة في أعيننا والسد المنيع أمام الانقاذ، والسيل الجارف لإغراق البلد وشعبه في لجة بحر الظلمات.
فلو قلنا باختصار أن مشكلتنا سياسية – اقتصادية، نقول باختصار أنها شأن للملك وما دون ذلك مستلزمات ديكورية فهل هذا ما زال قائما. فعلى الصعيد السياسي إن الأردن كنظام هو اليوم متلقيا في السياسة وغير مشارك. فالمرحلة الطويله التي كان يُسسخر فيها للعمل السياسي أنجزت وانتهت. ومظاهر الانتهاء كفيلة باتمامه للمطلوب منه، ونرى هذه المظاهر في أبطال جدد بلا أقنعه، وفي ما آلت اليه الدولة وشعبها والوضع الداخلي للملك والأسرة المالكه. لم تُبقِ أمريكا بيد الملك ورقة تحميه، بل زرعت أمامه كل اوراق الضغط والإبتزاز. إلا أنه وهو يرى من حوله ألأصدقاء يتغيرون والأعداء يتغيرون لم يتغير، والحكمة الانجليزية تقول لا بقاء لمن لا يتغير.فبدلا من الانتفاض على المستجدات والمواجهه والمسارعة للتغيير وإعادة التموضع السياسي بشعب تواق، أشهر مسدس الثوابت بلا ذخيرة فيه سوى المسكنات لثالوث الدولة والشعب والقضية وتعليقها على “مينوارة ” الحاخام قربانا وتمريرا للأطماع الصهيونية.
أما السلوك الاقتصادي الخادع فلا نظريات سليمه ولا أقوال صادقه ولا أفعال إلا هدَّامه. والجهود على الصعيد الدولي مقتصرة على البحث عن مانحين ومقرضين لا أكثر وغير ذلك ترهات، ولا أثر لها سوى زيادة الأحمال. وفي الداخل ترتكب كل الجرائم الاقتصادية بحق الدولة ومقدراتها،وبحق شعب فقير يدفع فواتير الفساد و يخضع لكل المحرمات أخلاقيا.
الأردن الذي يُصَدر الخبراء والفنيين للعالم يسيره اليوم سماسره، الأردن المزدحم بالنخب السياسية الوطنية يديره رويبضات مأجورة. وشعبه الذي قصته الكرامة يجري إذلاله وإذلال وطنه ويتعرض للضغوطات ليقبل التخلي عن عقيدته وعروبته وأم قضاياه، القضية الفلسطينية. الأردن اليوم في ظرف يحتاج فيه الى جنود مجهولين وأبطال وقادة مجهولين مهما كانوا معروفين، ظرف تسقط فيه المشيخة والمشايخ فوق سقوطهم، وتسقط الورقية معهم، ظرف يتقدم فيه الفعل على كل انواع الكلام. فلِم الإنتظار وعلى ماذا المراهنه والسكين يقترب من النحر. أليس هناك من الدلائل ما يشكل قناعة بأن الملك في محنة ؟ ولا يبدو مسيطرا على القرار أو القلم أو التغريده، ويحتاج الى تدخل شعبي وازن وجاد يسنده ؟. اليس التفرج على وطن يدنس ويباع ودولة تفترس خيانة للعهد والضمير ؟ أم أن أزمتنا أخلاقية؟ الأردن كله مطالب لتلبية النداء والخروج للشارع في وجه أمريكا إسنادا لفلسطين والملك والتغيير، وليس للصفقة عندنا إلا الصفعه.
كاتب وباحث عربي