دول تعتلي ظهر مسار نحو فقدان هويتها السياسية وهوية شعوبها الإنسانية، وتبعات تَغييب الحرية عن شعوبنا يبقيها ضحية مسلوبة الارادة عاجزة، مطية للإستخدم لا تمتلك وطنا ولا سيادة على نفسها ولا حقوق ولا كرامة الانسان، شعب مسلوب الحرية هو كمٌ من العبيد والنعاج في حظيرة لا يخرج منها إلا مأمأة وثغاء وطعام للأكلين.
حرية المواطن هذه رهن بالنظام الذي يحكمه. فإما ديمقراطي يُمكنه من ممارسة خياراته الشخصية والوطنية والسياسية ويحقق العدالة الاجتماعية، وإما استبدادي يصادرها ويسلبه انسانيته ووطنه. لنعلم بأن ليس لمثل هذه الأنظمة قضية ولا تحدي إلا الشعب.. لكن المعنية منها تتميز عن غيرها بتحالفها مع عدو شعوبها وقضاياها في سياق هدف هذا العدو لتركيع هذه الأمة ومحو مفاهيمها وثقافتها، وشطب اوطانها من سجل عقار التاريخ لتعيش رعايا مستعبدة في بلادها وبما حقق مصلحة الدكتاتور أيضا.
سؤال واحد يشكل حله الأولوية التي تضع اقدامنا على الدرجة الأولى للسلًّم، هو كيف تتخلص الشعوب من الأنظمة الدكتاتورية كي تصبح حرة. وبخلاف ذلك ستبقى تدور في فراغ خارج نطاق الجاذبية حول الكتلة الحرجة التي اغتصبتها منها السلطة المستبدة.
التخلص من النظام الدكتاتوري لا يكون إلا بتفكيكه، وهذا عصي على السطحية والإرتجالية، فمن السهولة أن يرث هذ النظام نفسه. إنه في حرب دائمة ضد شعب لا لمجرد نزع ارادته واستسلامه بل لإيصاله الى حالة تُعرف ب “حالة المواطن المستقر”. وهي الحالة التي تتقبل فيها الشعوب الظلم والاستبداد والاستحمار والاستعباد كنمط حياة مرتبط بالدكتاتور تتزاحم فيها لتتحقق حاجاتها البيولوجية كهدف أسمى، وبحيث ترتكب هذه الشعوب على مذبح بقاء هذه الحالة والحفاظ عليها كل انواع النفاق والكذب والفساد والخنوع، وإذا تفاقم وضعها فإن المواطن فيها قد يُقدِم على الانتحار ولا يُقدم على المواجهة كالخروج في مظاهرة او الاحتجاج على موقف السلطة مثلا.
نعود الى السؤال كيف تتخلص شعوبنا من الأنظمة الاستبدادية وقد وصلت كما يبدو الى حالة “المواطن المستقر” تلك. فمسألة التخلص من الدكتاتورية والطريق لذلك هي محط اهتمام المفكرين السياسيين والاجتماعيين، ومنها كتاب استفزني بعنوان ” من الدكتاتورية الى الديمقراطية ” الى اليهودي الأمريكي Gene Sharp ، ولكني لم أعثر فيه ولا في غيره على ما ينير الطريق أمام حالة الشعب الذي دخل مرحلة المواطن المستقر، وكيف بإمكانه التخلص من هذه الدكتاتورية بعد أن أصبحت مطلبا له ، وأصبح لها قدسيه عنده.
إن ما يرسخ الاستسلام للظلم وتقبله ويمنع محاولة رفعه ليست القناعة به ولا العجز أو افتقاد الوسيلة، بل هو الخوف عندما يستحكم بالنفس ويُختزن في العقول. وهو حالة نفسية تشكل الطبيعة لحالة “المواطن المستقر” ولا يحلها الا ادراك صاحبها لزيفها. فنزع الخوف هو المقدمة الأولى لمواجهة وتفكيك الانظة المستبدة واستعادة الحرية، وهذا ممكن. وأضرب مثلا قصة صينية لنستخلص العبر منها، وهي.
أن رجلا عجوزا استطاع العيش والبقاء بواسطة قردة يقتنيها لخدمته، يرسلها للغابة لتقطف الثمار وتأكل وتعود له بالعشر تحت طائلة العقاب والجلد. وذات يوم طلب العجوز من كبير هذه القردة أن يقودها للغابة كالعادة. وبينما هي منهمكة بالقطاف برز قرد صغير منها وسأل رفاقه، هل هذا العجوز هو من زرع هذه الاشجار؟ فقالوا لا إنها تنبت لوحدها. فسألهم هل نستطيع القطف واخذ المحصول دون اذن منه، فردوا بنعم، فقال ما دام الأمر كذلك لماذا إذاً علينا ان نأخذ الإذن منه؟ أدركت القردة المغزى. وفي الليل كسرت قضبان القفص وهو نائم واستولت على كل الفاكهة في المنزل وذهبت للغابة ولم تعد، فمات العجوز.
العبر من هذه القصة غاية في الأهمية لحالتنا وبالذات الأردنية، نأخذ منها أن النظام الدكتاتوري هش ويعتمد في بقائه على رضوخ الشعب المغيب وعيه ويعتقد بأن طاعة الدكتاتور واجب. ونستخلص بأن النظام يعتمد في بقائه على متعاونين كأفراد على رأس الأجهزة. ونستخلص بأن التجمع الشعبي لا يُسمح به الا لخدمة الدكتاتور وبأن هذا التجمع هو بنفس الوقت عامل أساسي لشعور الشعب بالقوة وبالقدرة على اتخاذ القرار والفعل وإحداث التغيير ، وبأن المقاومة السليمة هي في الحراك السلمي المنضبط باستراتيجية معينة خالية من العنف، فهي الكفيلة بتحقيق الهدف وسلامته بتجنب استبدال نظام استبدادي بأخر. وأخيرا نستنتج أن النخب الواعية والمنعتقة من عقدة الخوف في مجتمنا تقع عليها مسئولية توعية ومساعدة الجماهير على التخلص من عقدة الخوف وصولاً لتفكيك الدكتاتورية كنظام.
والان أضع ملاحظة على ما ذكر بصراحة. وهي أن الحراكيين الذي يخرجون للشارع أو للرابع ليس هو الجمهور. بل هي النخب بأشكالها والمنعتقة من مرض الخوف وهذا وحده لا يصنع تغييراً، وبالتالي فإن هذا الحراك لم يستطع اقناع الجمهور المعوّل عليه للتغيير بالخروج من منازله. لقد كان المتواجدون في أول خميس من رمضان في الدوار الرابع رغم الشحن على وسائل التواصل الاجتماعي لا يزيد عن أربعماية شخص كلهم تقريبا يعرفون بعضهم البعض. وفشل بالتالي حتى بحماية نفسه. بل فتح المجال أمام ادوات القمع لتلقيط الناشطين بالهتافات بطريقة وحشية وجبانة من داخل بيوتهم وصلت لإذلال الأطفال وترويعهم بضرب والدهم أمامم أعينهم حتى أن طفلة التبس الأمر عليها وصاحت يا ماما دخل اليهود لبيتنا. لا نخلي النقابات والأحزاب ومرتزقة مؤسسات المجتمع المدني من تحمل المسئولية ومن إحجامهم عن المشاركة في الحراك السلمي والإكتفاء ببيانات انشائية متأخرة لرفع العتب. ولا النخب التي لم تتمكن من القيام بدورها في تشكيل قيادة للحراك وضبط وترشيد خطابه.
النخب الصادقة الوطنية مسئولة عن وضع استراتيجية تعتمد القواعد الموضوعية لسلامة العمل الوطني ونجاحه والمتمثلة بتحديد طبيعة التحديات التي يجب أن تمثل رؤية واحدة وفهْما واحدا، وتوافقا على سُبل مواجهتها، على أن تكون القضية الفلسطينية هي اللازمة ، فتصفيتها لا تمر في الواقع إلا على جثتي الأردن وفلسطين، وعلى حساب سلامة وأمن العيش للجميع.. ونحن في هذا أمام تحديين أساسيين اثنين هما، نهج الملك السياسي، ووحدة وسلامة النسيج الشعبي الأردني والعمل.
ولا بد لهذه الاستراتيجية أن تقضم ما أمكن بالوسائل السلمية من الأدوات التي يستعين بها النظام الاستبدادي على البقاء، وعلى رأسها المتعاونين المحليين ومقاطعتهم. بما فيه مأجوري الصحافة ممن يجعلون من أنفسهم “هاتف نقود ” تلقمه القرش فيتحدث ويسفُّ ويتطاول بسيف غيره واسمه عند العرب” السيف الجبان ” ، وعندما تمنع عنه القرش يتأدب. وما كان لنباح الكلاب يوما أن يوقف قافلة تسير..
لننتبه وينتبه النظام معنا، إن البطش غير المسبوق ببعده اللاخلاقي من قبل أدوات قمعه مؤشر على شعوره بالخطر ودليل هشاشة وخوف ، ودليل رضوخ للصفقة ، لقد جاء في وقت يعاني فيه الشعب من الفقر والبطالة والإحباط وضياع البوصلة وفقدان الدولة، وجاء هذا البطش بنوعية تهدد أمن وثوابت العائلة الأردنية الاجتماعية والخلقية والأمنية بل والحالة المستقرة التي أوصله لها. إنه بطش ليس لصالح النظام ولا لصالح قضية الشعب الذي لا يمتلك البديل الوطني الاستراتيجي الجاهز، لتصبح النتيجة ثورة فوضى عمياء يختلط فيها الخاص بالعام والخير بالشر. والمحصلة تبديل نظام مستبد بأخر أسوأ. والسؤال الكبير هو، هل هناك من يدفع الملك لحتف ملكه. لمن الحكمة اليوم. ؟