بديهية، إن أغفلها أو تشكك فيها العرب ومروا عنها فلن يتمكنوا من خطوة إلا للخلف، وهي أن بقاء المشروع الصهيوني في فلسطين حياً يعني على وجه القطع بقاء الدول العربية وشعوبها تحت الاستهداف الذي لا يتوقف، والانحدار الذي ليس له قرار، ونجاح العدو بمشروعه في فلسطين يعني بالضرورة نجاح مشروعه في المنطقة العربية، ومن هنا فإن القضية الفلسطينية قضية كل العرب ولا اختلاف بالمصير بين عربي وآخر، والصهيونية لا تُفَصل مصيرا للعميل والخائن والمتعاون مختلفا عن مصير مقاوم لها، فصداقة العدو كوقوع الحمل بحضن الذئب، الدول والشعوب العربية ما زالت تعمل بمعزل عن هذه الحقيقة. وغياب الحقيقة يغيب الوسيلة الصحيحة للتعامل معها.
فرضت التجارب المريرة على الشعب العربي أن يفقد الثقة بسياسة الأنظمة العربية ومواقفها المعلنة الفردية والجماعية، وفقد المعسكر الصهيوني بدوره الثقة بقدرة عملائه من الحكام العرب على حسم الموقف لصالح المشروع الصهيوني، سواء بحياديتهم أو بدعمهم. فالأنظمة العربية عبئا على قضايا الشعوب العربية الداخلية والخارجية وعلى قضيتها الأساسية الفلسطينية، وإن انهماك نخبنا وشعوبنا بمتابعة مؤتمراتها واجتماعاتها، وانشغالها بالبحث في مناكفات الأقزام والرعيان والساقطين والإمعات وبائعي الكرامة في هذا الظرف سقطة تاريخية، وتجني على التحليل السياسي، وغسلا لعمالة الأنظمة، ومنحها وزناً ليس من حمولتها الذليلة.
صفقة التصفية جاءت لتبدأ مع العرب من نقطة تركت خلفها مكونات القضية التي تحت سيطرة العدو وابتلعتها من طرف واحد دون هضمها باستثناء المكون الأساسي الذي يقع تحت سيطرة الشعبين الأردني والفلسطيني. إنه المكون السكاني ببعده السياسي الوطني والدولي لشعب له حق العودة وتقرير المصير على ارضه المحتلة وممارسة حقوقه غير القابلة للتصرف (الاحتلال). وإن فشل العدو بتحقيق ذلك سيجعل من كل ما ابتلعه عصي على الهضم وحبرا على ورق. لذلك فإن الصفقة لا تعني أقل أو أكثر من صفقة التوطين والوطن البديل، وتجعل من النظام الاردني صاحب مسئولية تاريخية مباشرة.
إن تمرير هذه الصفقة لا يكون الا بكسر ارادة الشعبين الفلسطيني والأردني ولا يكفي كسر إرادات أنظمة مكسورة. وكون الشعب الاردني بكل مكوناته واتجاهاته رافض للنهاية لأي تلاعب بالقضية الفلسطينية، فإنه لن يشكل بيئة لقبول القيادة الاردنية بقبول الصفقة ولا للتعايش معها أو مع النظام. وهذا يشكل قنبلة تنويرية للمستقبل أمام الملك، وسندا شعبيا يستند اليه بفتح جبهة مع مراكز القوة الداخلية وأمريكا لرفض الصفقة وكل التغييرات في إطارها جملة وتفصيلا، رفضا تتناغم فيه ارادة شعبه مع ارادة الشعب الفلسطيني. وهذا كاف لإفشال الصفقة وكل ما ابتلع في سياقها بلا كلفة. فأي تجاوب للنظام الأردني مع الصفقة لا يعني سوى إفشالها على حساب أمن واستقرار الدولة والشعب والنظام الذي عليه الإبقاء على هذا الفهم.
بالونات الاختبار لهذه اللحظة عادت خائبة للعدو الذي عليه أن يراجع نفسه وصفقته. ولكن إن كنا لا نجزم أين ستنتهي مراهنة أمريكا على القيادة الهاشمية وفيما إذا وصلت لطريق مسدود، إلا أننا نجزم أن العلاقة بين الطرفين ليست على ما يرام وأن أمريكا وضعت الملك فوق الشجرة.
فالضغوطات النوعية على الاردن بكل انواعها والتي وضعت الدولة ونظامها على شفا السقوط، ومراكز القوة التي وضعت أمام الملك لإخضاعه، تقابلها صعوبات شعبية فلسطينية- اردنية سياسية رافضة للصفقة جعلت من الملك يتلمس رأسه. وأمريكا تفهم الوضع تماما ولكنها تريد للملك أن ينتحر. والملك متردد وحائر في باب النجاة ويخشى أن يخطو معها للأمام، كما يخشى من نتيجة الفشل إن خطا ضدها للخلف، فمراكز القوة في الداخل مرتبطة مباشرة بمركز القوة والتأثير الخارجية. ومن هنا فإن حبل التجاذب سيبقى قائما بين الملك والعدو.
وما زال الملك وحده يتحدث عن حل الدولتين الذي شبع موتاً وأعلنت امريكا واسرائيل تجاوز مرحلته وأن لا مكان له على الطاولة. الملك يعلم بهذه الحقيقة السياسية.وما تجاهله لها إلا على سبيل الهروب الواضح من مواجهة التطورات السياسية.
الملك الذي ما زال يتلمس طريق نجاته بعيدا عن الشعب يبحث عن هدنة مع كل التحديات. إنه يجهد في إرضاء محور الأنظمة العربية المتحالفة مع امريكا وإسرائيل ولكنه غير قادر على ارضائها بما يقدمه لها أو بمناكفته لها لارتباطها بالسياسة الأمريكية الضاغطه عليه، ناهيك عن ارتباط السعودية بتاريخ سرقة المُلك الهاشمي، ولا هو( أي الملك ) قادر على إقامة علاقات طبيعة مع دول المنطقة المنافسه لذلك المحور كتركيا وقطر، ولا مع المحور الغارق في صراع مع أمريكا على خلفية غير خلفية القضية الفلسطينيه، ولا حتى مع سوريا الجاره الشقيقة وذات الحيوية الجغرافية والسكانية والأمنية للأردن وشعبه دون أن نسمع تبريرا عاقلا أو جديا لذلك، رغم أننا بالمعنى الجيوسياسي التاريخي جزء من سوريا الكبرى، بينما نراه قادرا على التوجه للعراق ولا تفسير لذلك سوى التجاوب مع الرغبة الأمريكية بعيدا عن حسابات المصلحة الوطنية والقومية، وتمسكا منه بحالة سياسية أمريكية لم يعد لها وجود.
السؤال الذي علينا متابعته كأردنيين هو الى أين سيتوجه الملك لدى نزوله عن الشجرة. هذا يعتمد على طبيعة المخطط الصهيو- امريكي في الأردن وليس على مدى تجاوب الملك مع المخطط مهما كان التجاوب كبيرا. وتاريخ أصحاب المخطط يتحدث عن رحيل الهاشميين في المحصله. فالنظام الهاشمي ليس مصمما ليكون جزءا من المخطط بل جزءا أساسيا من آلياته. لذلك فإن للأردن وضع خاص بين الدول العربية الحليفة لأمريكا. حيث يتحدثون عن ثبات الأنظمة وتغيير الحكام في تلك الدول بينما يتحدثون عن التخلص من القيادة الهاشمية ونظامها في الأردن حين يحضر الاستحقاق المرتبط بالتوطين والوطن البديل. والقيادة الهاشمية تعلم بهذه الحقيقة، وقد كان هاجس تثبيت النظام الهاشمي سببا رئيسيا وراء توقيع اتفاقية وادي عربه. وتعلم بأن الأردن فيه حقائق سكانية لا قدرة ولا منطق في تجاوزها وتجاوز طموحاتها الوطنية وارتباطها بالقضية، والسياسة الأمريكية الاسرائيلية تتطلع الى توطين سياسي لخمسة عشر مليون فلسطيني وطوي ملف القضية الفلسطينية بحل تاريخي لا يكون إلا بالأردن كجزء تفترضه وتسوقه على أنه فلسطين الشرقيه. فالتاريخ عندها هو السيرة التوراتية التي تعتبر الأردن جزءا من الأراضي المقدسه.
نخلص للقول بنقطتين:
الأولى: أن مشاركة الملك الشعب الأردني القلق من الصفقة يقوم على خلفية مختلفة عن خلفية الشعب، وأسس الرفض لها ليست متطابقة، ولكن هناك تلاق بالمصالح يُستغل فيها الشعب أحيانا ولا تخدم الملك بالمحصلة. وهذه حالة مرفوضة شعبيا ولا هي منتجة للملك. نريد ملكا يثق بشعبه ويعتمد عليه ويقف معه لمواجهة التحديات المصيرية. ولا نريد مصلحة نلتقي عليها سوى مصلحة الوطن المرتبطة بالقضية الفلسطينية، ومنعة الدولة وجبهتها الداخلية ووحدتها الوطنية.
الثانيه: أن الملك مستهدف من أمريكا واسرائيل والسعودية وسيبقى مهما قدم لأي منهم، فهذا الاستهداف مرتبط باستهداف القضية وبعوامل اخرى تاريخية. نريد للملك أن ينزل عن الشجرة بنفسه نزولا أمنا له ولنا ولن يكون هذا إلا نزولا باتجاه الشعب. فليس هناك قوة أجنبية عاقلة تواجه ارادة شعب. والمسألة بسيطة والسيناريو أصبح تكراره مملا، فالملك يعرفه حين تتولد الإرادة.